هنا رجل الدنيا هنا مهبط التقى هنا خير مظلوم هنا خير كاتب
قفوا وأقرأوا أم الكتاب وسلموا عليه فهذا القبر قبر الكواكبي
حين توفي منذ أكثر من مئة عام، كتب الشاعر حافظ إبراهيم هذه الأبيات على لوح من المرمر، ليكون شاهدا على قبر عبد الرحمن الكواكبي، ذلك المفكر الذي سجل التاريخ العربي اسمه كمناهضٍ لكل طبائع الاستبداد.
هو سوري الجنسية، قُتل في القاهرة مسموما عام 1902، ودُفن فيها، وبجواره قبران يُعتقد أنهما لمساعديه. ورغم أنه دفن في بلدٍ يحفظ للأموات حرمتهم ويعين حراسة على مقابرهم منذ زمن القدماء، إلا أن المقبرة تعرضت لتعديات عدة خاصة على مدار السنوات العشر الماضية، لكن مسؤولي الحكومة المصرية، التي بدأت مشروعا، تزيد تكلفته عن المئة ألف جنيه لتصحيح الوضع هناك، يجهلون حتى اللحظة أيا من المقابر الثلاثة يخص الكواكبي.
من الكواكبي؟
"الاستبداد لو كان رجلا، وأراد أن يحتسب وينتسب، لقال: أنا الشرُّ، وأبي الظلم، وأمّي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسْكَنة، وعمي الضّرّ، وخالي الذُّلّ، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، أما ديني وشرفي فالمال المال المال".. هو كاتب هذه الكلمات قبل أكثر من 100 عام، ضمن كتابه الذي لا يزال يطبع ويوزع حتى الآن "طبائع الاستبداد، ومصارع الاستعباد".
عبد الرحمن الكواكبي كاتب ومفكر، ولد في حلب. عاش بين عامي 1855 و1902، كانت آخر ثلاث سنوات منهم في مصر. ألف العديد من الكتب، كان أشهرها على الإطلاق ذلك الكتاب الذي يناقش ظاهرة الاستبداد السياسي.
ولأن ذلك الاستبداد "امتد وتطور خلال العقود، وبات يحتاجُ لقراءة مُعمقة في تجلياته ومساراته وطبائعه"، بحسب الباحث في العلوم السياسية سلام الكواكبي، ظل هذا الكتاب يُطبع ويُنشر ويُناقش في الندوات حتى يومنا هذا.
وبمراجعة ما نص عليه الكواكبي الجَدّ في كتابه، "فمن السهل بل والمذهل أحيانا، ملاحظة التطابق القائم مع أوضاعنا الحالية".. يقول سلام حفيد الكواكبي.
زيارة لمقبرته
ضمن مقابر مشاهير مصر، حيث امتداد جبانة باب الوزير، على بعد خطوات من شارع الإمام الحسين حيث عاش الكواكبي، التقطتُ قبل أيام قليلة هذه الصورة لمقبرة المفكر، وكما يظهر فيها تجري أعمال بناء سور يحيط بالمقبرة التي بدت في وضع مترد.
المقبرة التي تحوي ثلاثة قبور متراصة، نُحت على جانب أحدها أبيات الشعر التي كتبت في رثاء الكواكبي لتشير إلى مرقده، بينما لم يحمل القبران الآخران أي شواهد أو معلومات، في حين بدا أحدهما كما في الصورة وقد تهدم تماما.
ولصيقا بالسور المقرر إقامته، فتح أحد سكان المقابر هناك مقهى صغيرا يقدم المشروبات لزبائنه الذين وضعوا الكراسي والمناضد الخشبية أمام القبر، بعضهم يلعب الطاولة والدُّومينو، فيما يناقش آخرون أمور الحياة في حضرة الموت.
ولأي زائر أو مار أمام المقبرة، فقبر الكواكبي هو الأول من جهة الشارع، بحسب أبيات الشعر المنحوتة على جداره الجانبي، وهو أمرُ بحسب عائلة المفكر غير صحيح، فقبره هو القبر الموجود في المنتصف.
ومنذ الستينيات نزحت أسر إلى مقابر باب الوزير، للسكنى، وقصدوا أحواش (أفنية) القبور، وجرى العرف أن يتولى السكان الأحياء حراسة السكان الأموات بعد أخذ إذن ذويهم.
من سوريا
التقطتْ تلك الصور في أربعينيات القرن الماضي، وخصت أسرة المفكر في سوريا أصوات مصرية بها، وكما تُظهر فإن الشاهد الرخامي موضوع على القبر في المنتصف، بعكس الوضع الحالي.
"سألت التُرَبيّ عن الشاهد فقال: وقع وانكسر واختفى" تقول ضحى الكواكبي حفيدة المفكر الراحل، عن زيارتها الأولى لقبر جدها عام 2009.
لم يكن اختفاء شاهد القبر أزمة ضحى الكبرى، إذ وجدت نفسها بحسب ما تقول أبيات الشعر، مضطرة لأن تقرأ الفاتحة لشخص غير الكواكبي الذي عرفت، كما في صور العائلة، أنه يرقد في المنتصف بين قبرين لا أحد يعلم على وجه التحديد لمن وإن كان بداخلهما رفات من أصله أم لا.
أخبرها التُرَبي "إنهم" دون توضيح مَنْ يقصد بهؤلاء، "تلخبطوا بعد ضياع الشاهد، وأعادوا كتابة الأبيات في عجلة على القبر الأول".
وعلى إثر ما سمعت وشهدت، دخلت ضحى التي تستقر في مصر منذ ذلك التاريخ، في "دوامة" بين الجهات المسؤولة عن المقبرة، لإنقاذها، إذ لا تملك العائلة التصرف في أي مما يخص القبر، فالأرض المقام عليها وقفٌ تابع للدولة المصرية.
في القلعة
بقيمة 150 ألف جنيه، يتحمل الجهاز القومي للتنسيق الحضاري تكلفة مشروع تطوير مقبرة الكواكبي، وتُظهر الصور التصميم الذي سينتهي إليه المشروع، لكن هل سيتضمن ذلك إعادة شاهد القبر إلى مكانه الصحيح؟
"أول مرة أسمع المعلومة دي" هكذا أجابني أكرم إبراهيم، مدير عام المشروعات في الجهاز. وبعد حوار استمر قرابة النصف ساعة في مكتبه داخل قلعة صلاح الدين، حيث مقر الجهاز، كانت إجابته "لا يمكننا تغيير مكان شاهد القبر إلا بعد الاطلاع على مستندات موثوق فيها"، نافيا أن تكون الصور التي تملكها العائلة ورواية أفرادها ضمن تلك الوثائق التي يُعتد بها.
تعليقات الفيسبوك