قالت مؤسسة ستراتفور للتحليل الاستراتيجي إن تاريخ التشدد الاسلامي في مصر دموي وطويل، لكن التهديدات التي يشكلها الجهاديون المصريون خلال السنوات القليلة الماضية ارتفعت لمستويات جديدة. وخلال ثورة 2011 التي أطاحت بنظام الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، أطلق سراح كثير من الجهاديين، الذين كانوا محتجزين أثناء سنوات حكمه.
وذكرت المؤسسة في تقرير بموقعها على الإنترنت أن هولاء المتشددين لعبوا دورا قياديا في تشكيل جماعات مثل جماعة أنصار بيت المقدس، التي أصبحت بحلول آواخر عام 2013، الجماعة الإرهابية الأكثر نشاطا وفتكا في مصر.
وقال التقرير إن أي محاولة لدراسة تهديد المتشددين في مصر لابد اولا أن تقر بالاختلاف الكبير بين بيئة التهديد في شبه جزيرة سيناء وباقي الأراضي المصرية. وأضاف أن ما يحدث في سيناء أقرب إلى كونه تمردا. فالمتشددون هناك ينفذون هجمات كر وفر وكمائن وزرع قنابل على جوانب الطرق وهجمات بالصواريخ وقذائف الهاون. وعلى النقيض، يميل تهديد المتشددين في قلب مصر لأن يكون أكثر شبها بالارهاب في المناطق الحضرية.
ويرجع جزء كبير من هذا الاختلاف إلى تاريخ طويل من التوتر بين الحكومة في القاهرة والقبائل البدوية التي تقطن شبه جزيرة سيناء. وتحد الشبكات القبلية القوية في سيناء من سيطرة الحكومة هناك، وكذلك القيود المفروضة على وجود قوات مصرية في المنطقة بموجب اتفاقية كامب ديفيد. والبدو لديهم العديد من الشكاوى، بما في ذلك مزاعم بأن الحكومة لا تقدم خدمات تشتد إليها الحاجة ولا تشجع التنمية الاقتصادية في المنطقة. كما يتهم البدو الحكومة باستخدام القوة المفرطة ردا على الانتفاضات القبلية التي نتجت عن أوجه القصور الملموسة.
وقال التقرير إن ردود فعل الحكومة المصرية الصارمة في الاغلب تعزز تلك الشكاوى، وتساعد في جعل القبائل البدوية مناطق تجنيد خصبة للجماعات الجهادية.
صعود جماعة بيت المقدس
وقال التقرير إنه من عام 2004 إلى عام 2006، هزت حملة عنيفة من التفجيرات الانتحارية ضد أهداف سياحية في سيناء المنتجعات في طابا وشرم الشيخ ودهب. وتكونت الجماعة المسؤولة عن تلك التفجيرات من بدو محليين اعتنقوا افكارا متطرفة، وتأثروا بشدة بأفعال أبو مصعب الزرقاوي، إلى حد جعلهم يطلقون على جماعتهم التوحيد والجهاد - وهو اسم جماعة الزرقاوي قبل أن تتخذ لنفسها اسم تنظيم القاعدة في العراق في أكتوبر 2004.
وشنت الحكومة المصرية حملة صارمة على جماعة "التوحيد والجهاد"، وقتلت الكثير من قادتها ومقاتليها، لكن رد الفعل العسكري قمع فقط مشكلة التشدد المختمرة لكنه لم يقض عليها. وفي أعقاب الإطاحة بمبارك، عاد التشدد في سيناء مرة أخرى إلى الحياة، ما أدى إلى ظهور جماعة أنصار بيت المقدس. وعلى الرغم من أنها استخدمت اسما جديدا، لكن الكثير من أعضائها هم من المسلحين المخضرمين في جماعة التوحيد والجهاد السابقة. وفي البداية، ركزت الجماعة عملياتها على إسرائيل، وشنت سلسلة من الهجمات الصاروخية ضد إيلات من سيناء، فضلا عن عدد من التفجيرات لخطوط أنابيب الغاز الطبيعي الممتد من مصر إلى إسرائيل. لكن في عام 2012، بدأت الجماعة في تنفيذ عمليات اغتيال لزعماء القبائل في سيناء الذين كانوا وسطاء مهمين مع الحكومة. ومع التخلص منهم سعى الجهاديون لحرمان الحكومة من أي وسيلة لكبح جماح النشاط الجهادي في شبه جزيرة سيناء.
وبعد أحداث يوليو 2013 التي أطاحت بالرئيس الأسبق محمد مرسي، المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين، بدأت جماعة أنصار بيت المقدس في استهداف قوات الأمن المصرية بشكل متزايد. ورغم وجود هجمات على قوات الأمن في أواخر عام 2012، إلا انها أصبحت أكثر شيوعا عام 2013. واستخدمت الجماعة القنابل المزروعة على جوانب الطرق، والسيارات الملغومة، والأسلحة الصغيرة والصواريخ. وشنت العديد من الهجمات ضد حافلات نقل أفراد الأمن المصري. وفي يناير 2014، اسقطت طائرة مروحية تابعة للجيش المصري في سيناء باستخدام صاروخ أرض-جو محمول على الكتف من طراز ايجلا-كلاس، قد يكون واردا من ليبيا.
خلاف بين الجهاديين
بعد خلاف وقع بين تنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية (داعش) في العراق عام 2013، وإعلان الدولة الإسلامية تأسيس دولة خلافة في يونيو 2014، اختار كثير من أعضاء جماعة أنصار بيت المقدس التحالف مع تنظيم داعش. وكان بعض أعضاء الجماعة سافروا في وقت سابق إلى سوريا للقتال جنبا إلي جنب مع جهاديين هناك شكلوا نواة الدولة الإسلامية. وفي نوفمبر 2014، بايعت الجماعة تنظيم داعش وحملت اسم "ولاية سيناء". لكن جزءا ليس بالقليل من جماعة أنصار بيت المقدس لم ينفصل عن القاعدة، وكان يعمل في قلب مصر بقيادة ضابط مصري سابق في العمليات الخاصة يدعى هشام عشماوي.
وكانت الدعاية لعمليات جماعة أنصار بيت المقدس تظهر بعض الشبه مع الدولة الاسلامية قبل نوفمبر 2014 ولكن بعد هذا زادت أوجه الشبه فيما يبين تعاونا وثيقا بين الجماعتين. وبدأ التعاون بينهما يتضح في التكتيكات الميدانية لولاية سيناء. وعلى سبيل المثال، نفذت الجماعة في أول يوليو 2015، هجوما واسع النطاق على بلدة الشيخ زويد في شمال سيناء باستخدام تكتيكات مركبة تجمع بين تفجيرات انتحارية وهجوم بالأسلحة النارية من قبل عدد كبير من المقاتلين. كانت هذه التكتيكات مشابهة لتلك التي استخدمتها الدولة الإسلامية في العراق وسوريا بنجاح لاجتياح دفاعات والاستيلاء على مدن وقواعد عسكرية هناك. وعلى الرغم من صد الهجوم على الشيخ زويد في نهاية الأمر والحاق خسائر فادحة بولاية سيناء، إلا أنه أشار إلى الخطر الذي تمثله الجماعة. وقبل أن يمضي وقت طويل على الحادث، أعلنت ولاية سيناء مسؤوليتها عن هجوم على زورق للبحرية المصرية قرب رفح باستخدام صاروخ موجه مضاد للدبابات. وأعلنت أيضا مسؤوليتها عن تفجير طائرة روسية في أكتوبر 2015 بعد وقت قصير من اقلاعها من مطار شرم الشيخ في جنوب سيناء.
وباءت كل محاولات تنظيم ولاية سيناء في الاستيلاء على أراض في شبه جزيرة سيناء بالفشل، وعانى أيضا من خسائر فادحة في عدد مقاتليه في هجماته ضد الجيش وقوات الأمن المصرية. لكنه مازال يحتفظ بقدرته على تنفيذ هجمات ضد قوات الأمن ونقاط التفتيش غير أن تكتيكاته تراجعت باتجاه استخدام القنابل المزروعة على جوانب الطرق، وهجمات الكر والفر بين الحين والآخر بوحدات أمنية صغيرة ما حد من خسائره وسمح باستمرار العمليات لفترة أطول.
وكثيرا ما بذلت جهود في شبه جزيرة سيناء، التي طالما كانت ممرا لتهريب الأسلحة إلى الجماعات الفلسطينية المسلحة في قطاع غزة، لوقف تدفق الأسلحة من ليبيا إلى ولاية سيناء. لكن المسلحين لا يحتاجون إلى مصادر خارجية من الأسلحة لإحداث دمار في سيناء. فهناك حقول ألغام كبيرة خلفتها الحرب بين مصر وإسرائيل لم تتم إزالتها من المنطقة، ورغم أن هذه الألغام أصبحت عتيقة، إلا انها تقدم لصانعي القنابل في التنظيم مصدرا قيما للمتفجرات، فتفكيك لغم مضاد للدبابات يمكن أن يوفر أكثر من 5 كيلوجرامات (11 رطلا) من مادة تي ان تي.
ونفذ تنظيم ولاية سيناء أيضا اعتداءات مسلحة واطلاق نيران ضد قاعدة القوة المتعددة الجنسيات التابعة للامم المتحدة في سيناء. ودفعت هذه الهجمات المنظمة الدولية إلى إغلاق بعض المواقع الأصغر وخفض عدد أفراد الخدمة. وقلصت هجمات ولاية سيناء السياحة هناك والتي كانت مصدرا مهما للدخل للاقتصاد المصري وفر فرص عمل لسكان شبه جزيرة سيناء.
ويعلن الجيش المصري بتفاخر أعداد من يقتلهم من مسلحي تنظيم ولاية سيناء، وقد يكون بينهم أسماء قياديين بارزين في التنظيم، لكن من المستبعد أن تجد الحكومة المصرية مخرجا من المشكلة من خلال القتل. وكما حدث في موجات تشدد سابقة في سيناء، فقد يساعد رد الفعل شديد الوطأة من الحكومة المصرية في دفع مزيد من شباب البدو الى التطرف. وحتى تبدأ الحكومة المصرية في معالجة المشاكل في سيناء باستخدام برنامج أكثر شمولا لمكافحة التمرد، ستظل الأمور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الكامنة عامل حفز للتشدد الإقليمي.
وإدراكا منها لهذا الخطر، اقترحت المملكة العربية السعودية خطة تنمية اقتصادية لسيناء بقيمة 1.5 مليار دولار. لكن حتى اذا تم تنفيذها، فستكون خطوة صغيرة واحدة فقط من خطوات ضرورية لتوفير الأمن والإدارة السليمة والفرص الاقتصادية اللازمة لتحقيق الاستقرار في شبه جزيرة سيناء. وإلى أن يحدث ذلك، سيستمر الجهاديون في تجنيد اعضاء جدد وتنفيذ هجمات في سيناء.
تعليقات الفيسبوك