"كل شيء عم يخلص حتى الأحلام".. قالها أحد الأصدقاء أثناء وداعي في مطار بيروت في آخر يوم من ثلاثة أسابيع قضيتها في لبنان في أواسط التسعينات. عبارة موجزة وموجعة استعيرت من أغنية السيدة فيروز. لم أستطع الرد، وكأنما تجمد كل ما بداخلي. كان ردي ضمة طويلة إلى الصدر دون أن أنطق بكلمة، ثم استدرت متوجها إلى طائرتي العائدة إلى القاهرة. عاد المشهد إلى ذاكرتي هذا الصباح في اليوم الأخير من العمل التحريري في موقع "أصوات مصرية" الذي أنشأته مؤسسة تومسون رويترز، وأعلنت السبت الماضي عن إغلاقه بعد نحو ست سنوات من العمل.
تميز المشروع منذ بدايته بتقديم تجربة مهنية للتغطية المحايدة للشؤون المصرية مع تطبيق معايير الصحافة العالمية من الدقة والحياد والحفاظ على مسافة واحدة من كل الأطراف. وأتاحت تومسون رويترز خدمات الموقع مجانا لوسائل الإعلام المصرية. ونجح الموقع في إقامة علاقة ولاء مع الجمهور. وتظهر احصاءات موقع اليكسا لمتابعة الإنترنت أن رواد أصوات مصرية يمضون في زيارة الموقع نحو خمس دقائق في المتوسط مقابل نحو أربع دقائق ونصف على موقعي قناتي العربية والجزيرة مثلا رغم تنوع تغطيتهما وحجم امكانياتهما.
ورغم رعاية مؤسسة تومسون رويترز للمشروع طوال سنوات عمله، بدأت تظهر بعد انتشار اسمه حساسية من الخلط بينه وبين وكالة رويترز خاصة أنه كان يعمل من مقرها في القاهرة. وأنشأت مؤسسة تومسون رويترز شركة مساهمة مصرية لإدارة المشروع، يتملك أسهمها الآن ثلاثة من الصحفيين المشهود لهم بالمهنية والمكانة الرفيعة: هاني شكر الله ونجلاء العمري وسلمى حسين. وقبل الثلاثة هذه المهمة في إطار دعم الصحافة المستقلة المحايدة.
وحين توليت عملي كرئيس لتحرير أصوات مصرية ومدير للشركة قبل نحو عامين، حرصت على تأكيد الشخصية المميزة لهذه الخدمة الإخبارية. وفي بعض الأحيان، كنت أنشر على صفحتي على فيس بوك روابط لأخبار أو موضوعات سبقنا بها وسائل الإعلام المحلية والعالمية بما فيها رويترز ذاتها. ورفعت شعار "أصوات مصرية أم الأجنبي" لتعزيز احساس الانتماء والتميز لدى فريق العمل. وحصل الفريق منذ نهاية عام 2015 على خمس جوائز صحفية محلية واقليمية وعالمية. واختارته كلية الإعلام بجامعة القاهرة من خلال استطلاع للرأي بين الطلاب أوائل العام الحالي "الموقع الأكثر مهنية في مصر".
وعلى مدى فترة عملي، لم يحدث أن تدخل مسؤول من مؤسسة تومسون رويترز، ولا من حملة الأسهم، بخصوص المادة المنشورة. فصل كامل بين الإدارة والتحرير جعل المشروع نموذجا يحلم به كل صحفي. ولم يكن المشروع هادفا للربح وبالتالي تحررنا من أي ضغوط مادية. لكن الرياح لا تأتي دائما بما تشتهي السفن.
وأوائل العام الماضي، أبلغتنا مؤسسة تومسون رويترز بأن الممول الرئيسي للمشروع وزارة الخارجية البريطانية قالت إنها لن تقدم تمويلا جديدا بعد نهاية الدورة الحالية في آخر مارس 2017 . وسعت المؤسسة لتدبير تمويل بديل دون جدوى ثم تحولت إلى مخاطبة مستثمرين عرب ومصريين قد يكون لديهم استعداد للإستثمار في المشروع لكن دون نتيجة أيضا.
ورفضت المؤسسة عرضا من فريق أصوات مصرية لنقل أسهم المشروع إليهم مثلما حدث في مشروع أصوات العراق الذي كانت المؤسسة أنشأته أيضا لكنه توقف الآن. واعتبرت المؤسسة أن الاقتراح غير عملي، وأنه لا بد من وجود مستثمر لديه دعم مالي كاف وخطة عمل والتزام بالخط التحرير للموقع بما يحافظ على مكانته وعلى حجم الجهد الذي استثمرته المؤسسة في المشروع، وكذلك على اسم تومسون رويترز. وفي آخر الأمر، كان القرار إغلاق المشروع مع نهاية مارس.
وحدثت خلافات بين بعض العاملين والإدارة بخصوص الإغلاق، وهو ما يجعل المدير المسؤول في موقف لا يحسد عليه. فأنت تنتمي للإدارة لكنك على خط المواجهة بين الطرفين، وكلاهما يلعنك إن اعتبرك تميل للجانب الآخر. لكن مؤسسة تومسون رويترز أكدت دوما أنها ملتزمة بحل أي خلاف حسب القانون المصري. ولعلي أجزم هنا أن هذه الخلافات ليست لأسباب مادية بقدر ما هي ردة فعل من فريق العمل، وهم يرون المشروع الذي ارتبطوا به وطوروه ورفعوا اسمه يواجه خطر التلاشي من الوجود. وأكاد أجزم أن كل الخلافات ستنتهي إذا قدر لأصوات مصرية أن تبقى على قيد الحياة، خاصة أن تومسون رويترز لم تبخل، كما ذكرت، بتقديم أي دعم للمشروع على مدى سنوات عمله.
مؤسسة تومسون رويترز لديها الآن اتصالات من اثنين على الأقل من كبار المستثمرين المصريين والعرب في مجال الإعلام. ورغم انتهاء بث الموقع اليوم، إلا أن الأمل معقود أن يحدث اتفاق خلال الأيام القليلة القادمة يعيده إلى الحياة مجددا.
الأمر الآن بين يدي حملة الأسهم، ومؤسسة تومسون رويترز، والمستثمرين المصريين والعرب أيضا، وبين يدي الله قبل كل شيء. وإذا انتهى الأمر بإغلاق المشروع فعلا فسأضم كل فريق أصوات مصرية إلى صدري، وأقول لهم "كل شيء عم يخلص حتى الأحلام". لكن كلمتي الأخيرة.. "لا تيأسوا أبدا".
تعليقات الفيسبوك