بدأ قادة وعلماء دين مسلمون ومسيحيون من عدة دول يوم الثلاثاء مؤتمرا ينظمه الأزهر الشريف ومجلس حكماء المسلمين في القاهرة لمناقشة قضية المواطنة والتعايش المشترك بين المسلمين والمسيحيين.
ويعقد المؤتمر في وقت تشهد فيه منطقة الشرق الأوسط توترات وصراعات بعضها على أساس ديني وطائفي. وكذلك في ظل تزايد الهجمات وأعمال العنف التي يشنها متشددون إسلاميون في دول عربية وغربية.
وتشارك في المؤتمر الذي يحمل عنوان "الحرية والمواطنة.. التنوع والتكامل" وفود من أكثر من 50 دولة من بينهم رؤساء الكنائس الشرقية وعلماء ورجال دين ومفكرون مسلمون ومسيحيون من مختلف المذاهب والطوائف.
ويستمر المؤتمر ليومين ومن المقرر أن يختتم فاعلياته يوم الأربعاء بالكشف عن (إعلان الأزهر للعيش الإسلامي المسيحي المشترك) وهي وثيقة يأمل المشاركون أن تسهم في تعزيز مبادئ المواطنة والتعايش السلمي بين المسلمين والمسيحيين خاصة في دول الشرق الأوسط.
وفي افتتاح المؤتمر يوم الثلاثاء قال أحمد الطيب شيخ الأزهر -الذي يترأس أيضا مجلس حكماء المسلمين- إن الأزهر "يدعو إلى نشر مفهوم المواطنة بديلا عن مصطلح الأقلية والأقليات."
ودعا الطيب قادة وعلماء الدين الإسلامي والمسيحي إلى تنحية خلافاتهم جانبا حتى يتمكنوا من تحقيق السلام الاجتماعي والعيش المشترك في دولهم.
وقال الطيب "أظنكم تتفقون معي في أن تبرئة الأديان من الإرهاب لم تعد تكفي أمام هذه التحديات المتوحشة وأن خطوة أخرى يجب علينا أن نبادر بها وهي: النزول بمبادئ الأديان وأخلاقياتها إلى هذا الواقع المضطرب."
وأضاف "هذه الخطوة تتطلب من وجهة نظري تجهيزات ضرورية وأولها إزالة ما بين رؤساء الأديان وعلمائها من بقايا توترات وتوجسات لم يعد لوجودها الآن أي مبرر. فما لم يتحقق السلام بين دعاته أولا لا يمكن لهؤلاء الدعاة أن يمنحوه للناس."
وانتقد الطيب الكيل بمكيالين في إلصاق تهمة التشدد والتطرف بالإسلام والتغاضي عما وصفه "بالتطرف المسيحي واليهودي".
وقال إن "المدهش بل من المحزن والمؤلم تصوير الدين في هذا المشهد البائس وكأنه ضرام هذه الحروب. وزُين لعقول الناس وأذهانهم أن الإسلام هو أداة التدمير التي انقضت بها جدران مركز التجارة العالمي وفُجر به مسرح الباتاكلان ومحطات المترو وسحقت بتعاليمه أجساد الأبرياء في مدينة نيس وغيرها من مدن الغرب والشرق."
وأضاف أن "بينما مر التطرف المسيحي واليهودي بردا وسلاما على الغرب دون أن تدنَّس صورة هذين الدينين الإلهيين.. إذا بشقيقهما الثالث يحبس وحده في قفص الاتهام وتجري إدانته وتشويه صورته حتى هذه اللحظة."
وضرب نماذج لهجمات شنها متطرفون مسيحيون ويهود وتحدث عن جرائم الإبادة والاغتصاب التي تعرض لها مسلمو البوسنة في التسعينات.
ودعا الطيب المؤسسات الدينية في الشرق والغرب للتصدي لظاهرة الإسلاموفوبيا الآخذة في التزايد خاصة في دول الغرب نتيجة لتعرضها لهجمات يشنها متشددون إسلاميون.
** خطاب مستنير وعصري
يرى البابا تواضروس الثاني بابا الأقباط الأرثوذكس في مصر أن التشدد هو أخطر تحديات العيش المشترك بين أبناء الديانات المختلفة.
وقال "لقد عانت مصر والمنطقة العربية وما زالت تعاني من الفكر المتطرف الناتج عن الفهم الخاطئ للدين والذي أدى إلى ما نواجهه اليوم من عنف وإجرام وإرهاب والذي يعد من أخطر تحديات العيش المشترك."
وقتل 28 شخصا على الأقل عندما فجر انتحاري نفسه في كنيسة بوسط القاهرة في ديسمبر. وأعلن تنظيم الدولة الإسلامية المتشدد مسؤوليته عن الهجوم.
وخلال الأيام القليلة الماضية نزحت عشرات الأسر المسيحية من مدينة العريش كبرى مدن محافظة شمال سيناء المصرية بعد مقتل سبعة مسيحيين على يد متشددين إسلاميين موالين لتنظيم الدولة الإسلامية الذي يسيطر على مناطق في سوريا والعراق وتبايعه جماعات في عدة دول.
ودعا البابا تواضروس إلى العمل على تقديم خطاب ديني معاصر ومستنير يتناسب والقرن الحادي والعشرين لمواجهة المتشددين.
وقال إن "الفكر المتطرف يُعالج بالفكر المستنير.. فلا يمكن قتل وجهة نظر أو سجنها لذلك لا بد من مواجهته بإرساء خطاب بنائي مستنير وليس خطابا إنشائيا."
وأضاف "نحن كرجال دين علينا مسؤولية كبيرة في إرساء هذا الخطاب العصري المستنير."
ودعا البابا تواضروس إلى استخدام مواقع التواصل الاجتماعي لتوصيل هذه الخطاب المستنير إلى الشباب بدلا من تركهم لأصحاب الفكر المتطرف.
وقال أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية إن مسيحيي الشرق "يتعرضون لخطة ممنهجة تهدف لإفراغ بلادهم منهم."
وكان يشير على ما يبدو إلى هجمات تعرض لها المسيحيون في العراق ودول أخرى بالمنطقة.
وأضاف أن "إسهام المسيحيين في الحضارة العربية لا ينكره إلا جاحد وجهودهم الوطنية في أوطانهم مقدرة ومعتبرة."
** التجربة اللبنانية
دعا البطريرك مار بشارة بطرس الراعي بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة ورئيس مجلس أساقفة كاثوليك المشرق المؤتمر إلى تبني التجربة اللبنانية في التعايش المشترك والمواطنة بين أتباع ديانات ومذاهب مختلفة نموذجا يمكن الاستفادة منه في العالم العربي.
وقال "نحن نعتبر أن التجربة اللبنانية في صيغتها المتجددة تشكل نموذجا يمكن الاستفادة منه في العالم العربي كنمط حضاري للعيش معا والترقي في مجتمعات تتميز بالتنوع والتكامل."
وأضاف أن هذه التجربة تشكل أيضا "مدخلا لإعادة تعريف العروبة بوصفها رابطة حضارية تقرب بين العرب.. لا مشروعا سياسيا يباعد فيما بينهم وتمكنهم من الإسهام في الحاضرة العالمية."
ويرى البطريرك اللبناني أن "الدولة المدنية هي المجال لمواطنة تحقق الاعتراف والمشاركة."
وقال طارق متري السياسي والأكاديمي اللبناني لرويترز إن "لبنان اختبر الحلو والمر. ولسوء الحظ التنوع اللي فيه أدى إلى انقسامات وإلى حروب... لكن اعتقد أن اللبنانيين تعلموا من هذه التجربة والآن هناك وعي في البلد لضرورة احترام التنوع والحقوق المتساوية وتأكيد مبدأ المواطنة من غير اللجوء إلى العنف بأي صورة من الصور."
وأضاف متري وهو وزير سابق إن خبرة اللبنانيين تستحق أن تُعّرف في بلدان ما زالت الانقسامات فيها بين فئات المجتمع وملله وطوائفه عميقة.
وقال "تستحق أن تعّرف لا لأنها نموذجية بل لنتعلم منها."
ويعتقد متري أن مثل هذه المؤتمرات ليست كافية بحد ذاتها لكن "الأهم هو كما قال فضيلة شيخ الأزهر هو أن يحمل المثقفون والدعاة والسياسيون هذه الأفكار إلى الناس وإلى مواطنيهم."
وأضاف "هذا المؤتمر لن يكون خطبا فقط. سيكون لنا جلسات تغوص في العمق في مسالة الحرية والتنوع." ويتوقع أن يصلح إعلان الأزهر للعيش المشترك الذي سيصدره شيخ الأزهر يوم الاربعاء "نصا مرجعيا لكل المهتمين بمسائل المواطنة والحريات".
وقال هيو توماس القس بالكنيسة الأنجليكانية في بريطانيا لرويترز إنه "إذا لم يضرب القادة (الدينيون) نوعا ما من النماذج بأنفسهم في الحوار والاستعداد للالتقاء والعمل مع بعضهم البعض فإن هذه (المؤتمرات) لن تصل إلى ما يطمح إليه الشارع."
تعليقات الفيسبوك