لا تمل من ساعات العمل الطويلة التي تبدأ منذ شروق الشمس وتنتهي مع غياب ضوء النهار، تنظف أحشاء الحيوانات المذبوحة وتحولها لقطع من "فواكه اللحوم"، وتبيعها لرواد سوق "السَقط" بمنطقة حي الوراق بالجيزة.
وبعد حسابات معقدة لما تبقى من بضائعها وحصيلة يومها من النقود، تتيقن "أم هلال" -أو "المعلمة" كما يطلقون عليها- أن المهنة التي توارثتها عن والدتها ومضت فيها أكثر من 35 عاماً "راحت عليها".
ولا تخفي أم هلال رغبتها في التخلي عن مهنتها التي لا تعرف غيرها، لكن تمسكا بمبدأ "من فات قديمة تاه"، تقرر الاستمرار فقط من أجل الحفاظ على اسمها وسمعتها الطيبة.
* بدون حماية
"أم هلال" واحدة من كثيرات يمثلن النسبة الأكبر من العمالة في تجارة السَقط -وهي مهنة مكملة لجزارة اللحوم- لكن عدداً قليلاً منهن لا يتجاوز الألف عضوات بنقابة الجزارين عن محافظتي القاهرة والجيزة -حسب تصريحات رئيس النقابة- ليظل العدد الأكبر منهن يعملن دون مظلة نقابية أو اجتماعية أو حتى صحية، ما يعني أعباء جديدة تتحملها العاملات في هذا المجال.
"أصوات مصرية" رصدت من خلال زيارتها لسوق الوراق معاناة الكادحات ومحاولاتهن الحفاظ على مكانتهن كـ"معلمات" تربعن على عرش "كار" تجارة السَقط منذ سنوات.
وتستلزم زيارة سوق الوراق -أحد الأسواق المخصصة لبيع "سقط اللحوم"- تدريبا خاصا لتقبل روائح فضلات أمعاء الحيوانات، والخوض بثبات بين المياه المخلوطة بالدماء، والتعامل مع الزمن الذي يختفي الإحساس به تدريجيا وسط كومات اللحم المخلط والأساليب القديمة المتبعة في الوزن والبيع والعرض.
كانت عقارب الساعة تشير إلى السادسة صباحاً، والقادمات من القرى والمناطق المجاورة على عربات الكارو لم تتخذن بعد أماكنهن بين نساء السوق، بعضهن بجوار بوابة أحد عنابر المجزر المجاور تنتظرن نصيبهن من الذبائح بالتنسيق مع أصحابها من الجزارين، فيما تواصل أخريات تجهيز الفرش من أطباق كبيرة مثبتة على سنادات من خشب لعرض المتبقي من حصيلة اليوم السابق من السَقط.
تقول أم مصطفى "أهي كانت ماشية وكانت الفرحة لما الواحدة تروح لبيتها كافية الماجور (الطشت أو الطبق) بعد ما جبرت وباعت، دلوقتي السَقط الواحد بنبيعه على مرة واتنين".
وتضيف أم شادي "قبل سنة كانت الستات بتتخانق على أماكن تفرش فيها بضاعتها وكان يوم الثلاثاء أول أيام البيع صعب تلاقي مكان من الزحمة"، وتشير بكلتا يديها نحو المحلات قائلة "ستات كتير هجرت المهنة وقفلت محلاتها وإحنا بنعافر علشان لقمة العيش".
* المكسب والخسارة
من المحل الكامن آخر السوق يطل وجه "جمالات" صاحبة الخمس وأربعين عاما، تدفع الهواء عبر "منفاخ" تغرز سنه تحت جلد أقدام ورأس الحيوانات المذبوحة فتزداد حجماً، تلقي بها جميعا في براميل الغلي فتتصاعد الأبخرة محملة برائحة الدم والفضلات، تزيل بالسكين طبقة الشعر الكثيفة ولا تنسى الحوافر، حيث ترفع "ببلطة" -توازي نصف وزنها تقريبا- وتضرب عليها بقوة حتى تنفصل عن الأقدام، التي تتخذ دورتها في الشطف بالمياه.
تقول جمالات "شغلانة متعبة لكن اتعودنا عليها"، وتضيف -وهي تعدل من وضع طرف ملابسها المعلقة بحزام من الجلد لفتّه على خصرها وثبتت به مجموع السكاكين التي تستخدمها- "جزارة السقط محتاجة رأس مال فكان لازم أغير نشاط المحل وأكتفي بالتنضيف لأنه مناسب لإمكانياتي".
وتؤكد "صعوبة التنضيف أهون من حسابات المكسب والخسارة المرتبطة دايما بعمليات الشراء والبيع خاصة في الفترة الأخيرة، وإن كان التنضيف محتاج لخبرة كبيرة وضمير صاحي".
وتستكمل عزيزة عبد الحميد زيدان دورة جديدة من دورات تجهيز "السَقط" للبيع مستخدمة خرطوم المياه، تدفع الفضلات العالقة بالأمعاء مقابل جنيهات قليلة لا تتعدى 100 جنيه تتقاضاها أسبوعيا من معلمات السوق "ده نصيبي من الشغلانة ويا رب تدوم".
وتحكم نوسة -إحدى العاملات في السوق- قبضتها على يد البرميل المُعبأ بالسَقط وتروي الصبية التي لا تتجاوز من العمر 17 عاماً قصتها مع الأسعار وتختزلها في جملة "عاوزة أتجوز"، فالأسعار بالمقارنة بمكسب نوسة كانت سببا في عدم مقدرتها الوفاء بمتطلبات جهازها ما أدى لفسخ خطبتها مرتين.
"الغلا ضرب الكل والكلام اللي بيتقال إن سوق السَقط عليه إقبال وإنه بديل الغلابة مش صحيح"، قالتها أم حسن إحدى جزارات السوق، موضحة أن أسعار الكوارع وصلت 80 جنيها، أما كيلو الكرشة وصل إلى 25 جنيها، وتتراوح لحمة الرأس بين 40 و45 جنيها للكيلو، والفشة 35 جنيها، والكلاوي 50 جنيها، والكبدة 70 جنيها، والممبار البلدي 45 جنيها.
وعن أسعار السَقط المستورد -بأنواعه السوداني والإثيوبي والصيني- فقد وصل سعر الممبار الهانك منه 20 جنيها، والصيني الأبيض الشفاف ما بين 15 و10 جنيهات، وتضيف "الواحد قلبه بيتقطع وهو بيوزن ربع كيلو لحمة راس لزبون وبيسأل ربع الكيلو هيعمل بيه إيه؟".
* ارتفاع الأسعار
وتوضح أم محمد -إحدى المترددات على السوق- من سكان المنطقة "الأسعار غالية جدا، الراس البقري المخلية رفعت خلال سنة من 50 جنيها إلى 100 جنيه بخلاف تكلفة تجهيزها وتشمل التنضيف والتكسير 10 جنيهات، وما يلزم لطبخها من طماطم سعر الكيلو 5 جنيهات، والبصل سعر الكيلو 8 جنيهات". وتُقسم قائلة "والله ما وقفت على محل جزارة من عيد الأضحى اللي فات، والبديل من سَقط اللحوم حسب الأسعار دلوقتي أكبر من إمكانياتنا".
"اللي ملوش في الكار سابه لكن إحنا أهله هنسيبه ونشتغل إيه هنخدم في البيوت؟"، قالت أم تركي إحدى المعلمات الواقفات على رأس السوق، وهي في كامل زينتها التي جعلت منها محط أنظار الجميع.
وتتابع عمليات الفصل والتصنيف والتجهيز ممسكة بأجندة تدون فيها الصادر والوارد للسوق من السَقط، وتقوم بدورها في تقسيمه لتسديد طلبيات اليوم الخاصة ببعض المطاعم الكبرى التي تعمل في "السمين" بجانب طلبيات تجار الجملة وتجار التجزئة والعاملات في السوق.
وتضيف "هي الأسعار بس اللي مأثرة علينا المشاكل كتير مصاريف الصيانة اللي بندفعها من جيوبنا للمحلات، مع الإيجارات اللي كل تلات سنين الحي بيعمل مزادات علشان يزودها، ده غير أمراض بتصيب أغلبنا بحكم طبيعة الشغل"، وتسأل "فين النقابة اللي إحنا بندفع رسوم لعضويتها؟ أو فين التأمين الصحي؟".
وتستنكر وأخريات من معلمات السوق الهجمة الأخيرة على تجارة "السقط" بعد تداول أخبار ذبح الحمير، وتقول أم تركي "رصيدنا السمعة ومنرضاش نأكل الزبون إلا اللي نأكله لولادنا لكن فيه ناس قاصدة تشوشر على المهنة والسوق مفتوح للمستورد والمضروب ومفيش رقابة".
* نقص الذبائح
ويوضح سمير لويس -طبيب بيطري ومدير مجزر الوراق- تأثير الأسعار على دورة رأس المال لسوق اللحوم عموماً ومن ثم سوق "السَقط"، ويقول نسبة النقص في عدد الذبائح التي يستقبلها المجزر سجلت 25 %، وأضاف أن سعر الذبيحة مع النقل أثر على سعر كيلو اللحم وكذلك أسعار السَقط والكميات المعروضة منه.
وعن نوعية ومصدر المعروض من سَقط اللحوم في ظل قلة عدد المذبوحات البقرية، قال "من الصعب الحسم فهناك مصادر عديدة، وعمليات خلط، وتحايل تتم من قبل القائمين على عمليات البيع".
وفيما يخص سلامة "السَقط"، أوضح لويس أن الأجزاء الخاصة بالرأس والرئة سهل التأكد من سلامتها بمعرفة الأطباء لكن "الكوارع" و"الممبار" فلا توجد وسيلة لمعرفة مدى صلاحيتها من عدمه، مؤكدا أن الوسائل المستخدمة في تنظيف هذه الأجزاء تمثل خطرا شديدا على الصحة العامة في حالة استخدام مادة الجير، وهي مادة كاوية في عملية التخلص من شعر الرأس والحوافر وكل ما يتعلق بجدار الأمعاء و"الكرشة" بحسب ما رصدته "أصوات مصرية" بالصورة. ففي الوقت الذي يستخدم البعض المياه المغلية لتنضيف السَقط، فإن هناك من يستخدم "الجير بإضافته لبراميل المياه ونقع أجزاء السَقط فيه خاصة "الكرشة".
ويقول يوسف البسومي -رئيس النقابة العامة للجزارين- إن من يمثلون الخطر الأكبر في سوق السَقط هم أصحاب المسامط بالمقارنة مع البائعات، فالسَقط في حاجة لخبرة في تنظيفه قبل تخزينه وهو ما لا يتفهمه أصحاب المسامط، فضلا عن قيامهم بالتخزين لأجزاء "السَقط" بشكل مجمع دون الفصل ولفترات طويلة.
ويوضح البسومي أن هذا المجال لا رقابة عليه فيما عدا بعض حملات التفتيش التي لا تعتبر من وجهة نظره كافية، وقال إن "شروط عضوية النقابة أن تمتلك العاملة في مجال جزارة السَقط محلا وهو غير متاح لمعظمهن، أما التأمينات فما زلنا نطالب الدولة بها كما نطالب بتعديل قانون النقابات بما يمنح لنا صلاحيات للإشراف على المهنة ومعاقبة من يستحق العقاب من العاملين في المجال".
تعليقات الفيسبوك