بعد أن كان محفزا للنمو الاقتصادي، أصبح الاستهلاك أحد الأسباب الرئيسية لتراجع معدل النمو، بعد زيادة الأسعار بمعدلات كبيرة دفعت المواطنين إلى تقليل استهلاكهم حتى في بعض السلع الأساسية.
فقد أظهرت مؤشرات الأداء الاقتصادي والاجتماعي، المعلنة أمس الأحد، تراجع نمو الاستهلاك إلى 2.1% في الربع الأول من العام المالي الجاري (يوليو- أغسطس- سبتمبر)، مقابل 6.5% في الربع المناظر.
وانخفاض نمو الاستهلاك ساهم بشكل أساسي في تراجع معدل النمو الاقتصادي في الربع الأول إلى 3.4% مقابل 5.1% في الفترة المناظرة من العام الماضي، كما تقول وزارة التخطيط في تقرير مؤشرات الأداء الاقتصادي.
يمثل الاستهلاك نحو 80% من الناتج المحلي الإجمالي في مصر
ولأول مرة لا يكون الاستهلاك هو المحفز الأول لنمو الاقتصاد ويحل الاستثمار بدلا منه، فقد تراجعت مساهمة الاستهلاك في النمو خلال الربع الأول إلى 2% مقارنة بنحو 6.2% في الربع ذاته من العام المالي الماضي.
"صدمة الناس من أسعار السلع والخدمات التي ارتفع بعضها بمعدلات أكثر من 100% كانت وراء التراجع الكبير في استهلاكهم خلال الشهور الأخيرة وخاصة بعد تعويم الجنيه" بحسب ما قاله أبو بكر إمام رئيس قسم البحوث في بنك استثمار برايم.
ويمثل الاستهلاك نحو 80% من الناتج المحلي الإجمالي في مصر وفقا لبنك استثمار برايم.
وهو ما أكدته رضوى السويفي، رئيسة قسم البحوث في بنك استثمار فاروس، قائلة إن "التضخم الكبير في أسعار السلع والذي لا تواكبه زيادة بنفس المستوى في الأجور، كان مؤشرا قويا على أن استهلاك الناس سيتراجع بشكل واضح خلال العام المالي الجاري، وأن الاستهلاك سيشهد نموا بمعدلات أبطأ كثيرا عن ذي قبل".
وبحسب بيانات وزارة التخطيط، فإن متوسط معدل التضخم السنوي في المدن خلال الربع الأول من العام المالي الجاري شهد ارتفاعا ملحوظا نتيجة انخفاض قيمة الجنيه ليصل إلى نحو 14.5% مقابل 8.5% في الفترة المناظرة من العام الماضي.
وقفز معدل التضخم السنوي في المدن إلى 23.3% في ديسمبر الماضي، مقارنة مع نحو 19.4% في نوفمبر.
"الناس اتخضت من الأسعار.. فجأة السلعة اللي كانوا بيشتروها بمية جنيه أصبحت بمتين أو أكتر"
كان برايم قد توقع، في مذكرة بحثية أصدرها قبل نحو أسبوعين، أن يسهم هذا الارتفاع الكبير في معدل التضخم إثر تعويم الجنيه في انكماش معدل نمو الاستهلاك العائلي خلال العام المالي الجاري والمقبل ليسجل على أقصى تقدير 3.5% لكل منهما، مقابل 4.6% في العام المالي السابق.
كما توقع أن تتراجع مساهمة الاستهلاك العائلي في الناتج المحلي إلى 2.9% بنهاية العام المالي الحالي مقابل 3.8% في العام المالي الماضي.
ويقول إمام إن "تراجع الاستهلاك بدأ قبل التعويم مع ارتفاع سعر الدولار في السوق السوداء وهو ما انعكس بدوره على أسعار معظم السلع، لكن بعد التعويم أسعار بعض السلع ارتفعت أكثر من 100%، والقوة الشرائية للجنيه تراجعت بنحو 50%".
وحرر البنك المركزي سعر صرف الجنيه في 3 نوفمبر الماضي بعدما ظل مستقرا في البنوك عند مستوى 8.88 جنيه للدولار منذ مارس. وترك المركزي للبنوك حرية تحديد أسعار صرف الجنيه أمام الدولار وفقا لآليات العرض والطلب، ويدور سعر الدولار حالياً حول 18 جنيها في البنوك.
وقالت رضوى "الناس اتخضت من الأسعار.. فجأة السلعة اللي كانوا بيشتروها بمية جنيه أصبحت بمتين أو أكتر".
وأضافت أن "المستهلك حاليا في مرحلة تعديل نمط استهلاكه، وبيشوف ازاي ممكن ينظم مصروفاته، ويتأقلم مع الأسعار الجديدة".
وقال إمام إن المستهلكين يلجأون حاليا إلى شراء كميات أقل وعبوات أصغر من السلع والمنتجات للتكيف مع الزيادة في الأسعار، كما أن بعضهم استغنى عن السلع مرتفعة الثمن ويبحث عن بديل أرخص.
وتجاوبت بعض الشركات مع التغيرات الجديدة من خلال طرح عبوات أقل حجما، أو تقليل وزن العبوات التي تنتجها وتثبيت أسعارها للحفاظ على مبيعاتها.
وينفق المصريون 34.4% من دخلهم على الطعام والشراب، بحسب بحث الدخل والإنفاق لعام 2015.
واتفقا إمام ورضوى على أن تراجع الاستهلاك سيكون السبب الرئيسي في انخفاض النمو خلال العام المالي الجاري.
وخفضت الحكومة توقعاتها للنمو خلال العام المالي الحالي إلى 4% فقط من 5% كانت قدرتها في بداية العام.
وكان بنك استثمار أرقام كابيتال الإماراتي توقع في تقرير أصدره نوفمبر الماضي عقب تعويم الجنيه، أن تشعر الشرائح الفقيرة ومتوسطة الدخل بضغوط كبيرة جراء الإصلاحات الاقتصادية قبل أن تحصل على مكاسب.
وقال أرقام إن المستهلكين من الطبقة المتوسطة سيقع عليهم معظم العبء، أما الشريحة مرتفعة الدخل فإنها لن تغير من عاداتها في الإنفاق رغم ارتفاع تكلفة المعيشة، متوقعا أن تستغنى الشريحة العليا من الطبقة الوسطى عن النفقات غير الضرورية في فترة من 3 إلى 6 أشهر التالية للتعويم.
الاستثمار قد يعوض
ترى رضوى أن التباطؤ في الاستهلاك خلال الشهور المقبلة ستعوضه الزيادة في الاستثمارات العامة والخاصة، خاصة مع تفعيل الإصلاحات الحكومية في تحسين مناخ الأعمال وإصدار قانوني الاستثمار الجديد والإفلاس، وتوفر العملة الصعبة بشكل تدريجي.
وأشارت إلى أن زيادة الاستثمار والانخفاض التدريجي في معدل التضخم سيساهمان أيضا في عودة نمو الاستهلاك، خاصة أن الاستثمار يساهم في خلق وظائف جديدة وزيادة الدخول.
ويتوافق رأي رضوى مع توقعات صندوق النقد الدولي الذي كشف، الأسبوع الماضي، عن وثائق اتفاق القرض الذي قدمه لمصر، حيث يرى أن الاستثمارات المحلية والأجنبية والصادرات ستقودان تعافي النمو الاقتصادي، ليصل إلى 5 و6% في المدى المتوسط، ويحلا بدلا من الاستهلاك.
وتشير تقديرات الصندوق إلى أن مساهمة الاستهلاك في نمو الناتج المحلي الإجمالي ستنخفض من 4% في الفترة من 2011 و2016 إلى 2.6% خلال الفترة من 2017 و2021، في مقابل زيادة مساهمة الاستثمار من 0.3% إلى 2%، وزيادة مساهمة الصادرات من -1.2% إلى 0.6%.
إلا أن إمام يرى أن الفائدة البنكية المرتفعة وزيادة سعر الدولار سيؤثران سلبا على خطط استثمار الشركات الخاصة في الفترة المقبلة، وأن زيادة استثمارات القطاع الخاص لن يكون أمرا سهلا بدون تحفيزها بقوة من الحكومة.
وقال إمام إن الحكومة لا يجب أن تتوسع في الاستثمارات العامة التي تضيف أعباء إضافية على عجز الموازنة العامة، وأن تعطي فرصة أكبر أمام القطاع الخاص.
كان أشرف العربي وزير التخطيط، قد قال في مؤتمر صحفي أمس، إنه حدث "نمو غير متوقع في الاستثمارات الخاصة خلال الربع الأول من العام المالي الحالي".
وأشار إلى أن الاستثمارات الخاصة "استحوذت على 69% من إجمالي الاستثمارات (في الربع الأول)، بينما كان مخططا لها 51% فقط"، معتبراً أن ذلك "يعني نجاح النموذج الذي تتبعه الحكومة بتخطيط مشروعات كبيرة وتوكيل تنفيذها للقطاع الخاص".
وأضاف العربي أن مساهمة الاستثمار في النمو خلال الربع الأول من العام المالي الحالي بلغت 1.8%، مقابل 1% خلال الربع المناظر، ليصبح "النمو في الربع الأول مصدره الاستثمار على عكس المعتاد".
تعليقات الفيسبوك