في ديسمبر من العام المنصرم، أخذت صحيفة "اليوم السابع" (خاصة)، زمام المبادرة بإعلانها قرار رفع سعر نسختها الورقيّة اليوميّة من جنيهين إلى 3 جنيهات.
وبررت الصحيفة قرارها -وقتئذ- إلى القارئ؛ بأنه نتيجة لـ"الأعباء الاقتصاديّة التي تعاني منها صناعة الصحف بسبب انخفاض قيمة الجنيه، وارتفاع أسعار مستلزمات الطباعة والصناعة، والوقود، وتكلفة توزيع الصحف" على أن "تتحمل (الجريدة) فروق السعر بالخسارة حتى يحصل القارئ على حقه في المعرفة".
وعلى الرغم من أنَّ قرار "اليوم السابع" لم يكن مفاجئًا، خصوصًا أنَّه جاء في أعقاب اتخاذ الحكومة مجموعة من القرارات الاقتصاديّة، أهمها تحرير سعر صرف الجنيه أمام العملات الأجنبيّة في نوفمبر من العام الماضي، إلا أنه فتح بابًا واسعًا من الجدل في الأوساط الصحفيّة حول مدى قبول القرَّاء لشراء مطبوعتهم اليوميّة بسعر تضاعف مرتين خلال فترة وجيزة، وكيفية مجابهة صناعة الصحافة الورقيّة، التحديات الهائلة التي تواجهها.
وقال رئيس التحرير التنفيذي لجريدة "اليوم السابع"، أكرم القصّاص، إنَّ المؤسسة أول مَن بادر بقرار رفع سعر النسخة.
وأشار في حديثه مع "أصوات مصريّة" إلى أنَّ نسبة انخفاض توزيع الجريدة لم تكن كبيرة.
ورأى رئيس التحرير التنفيذي لـ"اليوم السابع"، أنَّ شريحة كبيرة ستظل تعتمد على الصحف الورقيّة كمصدر للأخبار، منها الجهات الرسمية مثلًا، وأجيال من القرّاء اعتادت على مطالعتها.
وأشار إلى أنَّ عدم وجود صناعة محليّة للورق وكذلك استيراد أدوات الطباعة فاقم من الأزمة بشكل كبير، وهو ما أدى بطبيعة الحال إلى ارتفاع أسعار الصحف.
كانت الإدارة العامة للمطابع في مؤسسة "الأهرام" أرسلت في نوفمبر الماضي، خطابًا إلى المؤسسات الصحفية التي تتعامل معها، قالت فيه إنَّها سترفع تكاليف الطباعة بنسبة 80% من القيمة المتعاقد عليها، وذلك عقب قرار تعويم الجنيه.
ارتفاع سعر النسخة اليوميّة إلى 3 جنيهات، دفع عمرو رضا (34 سنة) ويعمل موظفًا في إحدى الشركات الخاصة، إلى الامتناع عن الشراء، والاكتفاء بالتلفزيون كمصدر للأخبار.
وقال رضا، "قدرتي الماديّة لا تتماشى حاليًا مع شراء صحيفة بـثلاثة جنيهات كل يوم، ما يعني إنفاق 90 جنيهًا في الشهر".
وأمام التحديات التي تواجهها صناعة الصحافة في مصر، وتراجع مبيعات الإعلانات المطبوعة، مقابل ارتفاع عائدات الإعلانات الرقميّة، لم تصمد جريدة "الشروق" (خاصة) كثيرًا، وأبلغت قرَّاءها يوم الثلاثاء 10 يناير الجاري، في كلمة تحت عنوان "عذرًا أيّها القارئ الكريم.. قرار لا بد منه"، رفع سعر النسخة إلى ثلاثة جنيهات.
وفسّرت الجريدة القرار بأنَّه جاء بعد ارتفاع تكاليف الطباعة بنسبة 80% وما وصفته بـ"التراجع المخيف" في إيرادات الإعلانات الموجّهة للصحافة، وعزوف المستثمرين عن الدخول في الصناعة "ذات الأهميّة الاستراتيجية".
"نحن الآن مطلوب منّا حسن تغسيل وتكفين الموتى لأن الصحف الورقيّة في طريقها للزوال"، بهذه الكلمات عبر مدير تحرير جريدة "الشروق" طلعت إسماعيل، عن اعتقاده بأنه لا مستقبل للصحافة الورقيّة.
وقال إسماعيل لـ"أصوات مصريّة" إنَّ المستقبل للصحافة الإلكترونية أو الديجيتال شريطة عدد من الأمور لا بد من وضعها في الحسبان أهمها وأخطرها "الاحترافية في المحتوى" وأن تسعى إلى اكتساب المصداقية عبر إعمال المعايير المهنيّة.
وأشار إلى ضرورة أن يتولى أمر المواقع الإخباريّة الإلكترونيّة محررون على دراية واسعة بالتكنولوجيا وما تتيحه تطبيقاتها من فرص واسعة للتواصل مع الجمهور بأشكال متنوعة ووسائط شتى وأجهزة تكنولوجية متعددة.
ولفت مدير تحرير "الشروق" إلى ضرورة توفير غطاء قانوني تستظل به تلك المواقع يمكِّن من ردع حالات الانفلات وتقنين العمل "وهذا لا يقصد منه سلب الحرية التي نطالب بها للجمهور قبل الصحفي لأنها شرط لتطور المجتمع".
الصحافة الورقيّة لن تنتهي "في غمضة عين" في رأي إسماعيل الذي أوضح أنَّ التواري سيكون تدريجيًا وكل حسب قدراته.
واختتم مدير تحرير "الشروق"، حديثه قائلاً إنَّ كل مرحلة تاريخية تفرز أشكالها للتواصل من النقش على جدران المعابد مرورًا بالكتابة على الجلود ثم اختراع الورق وحتى ظهور التكنولوجيا الحديثة، فتتطور أشكال الكتابة وتأخذ ما يلائم مرحلتها. وأضاف "أعتقد أن التكنولوجيا ستأخذنا لمناطق بعيدة في عالم الصحافة خاصة والإعلام عامة، ربما بشكل لا يتخيله أحد في ضوء القفزات الهائلة في هذا المضمار".
وكشفت دراسة أجراها الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، عن انخفاض معدل توزيع الصحف المطبوعة في عام 2015 بنسبة 14.4% مقارنة بالعام السابق.
"نحن الآن في غرفة الإنعاش وفي طريقنا إلى المدافن"، هكذا وصف مجدي الحفناوي مدير عام التوزيع في جريدة "المصري اليوم" (خاصة)، الحال التي آل إليها وضع الصحافة الورقيّة في مصر.
وقال الحفناوي لـ "أصوات مصريّة"، إنَّ جميع الصحف اليوميّة في مصر توزع أقل من 500 ألف نسخة، متوقعًا تراجعًا قدره ما بين 25% و30% في طباعة الصحف التي رفعت سعر نسختها إلى 3 جنيهات.
وأشار مدير عام التوزيع في "المصري اليوم" إلى أنَّ القارئ الذي يستغني عن صحيفته اليوميّة حاليًا لضعف المحتوى أو لارتفاع سعرها لا يقبل على شراء أخرى و"يلغي الصحيفة الورقيّة من حياته تمامًا"، متجهًا إلى تطبيقات الأخبار على الهاتف المحمول والتي تقدم له الخدمة مجانًا.
النظام الحالي لا يريد استمرار الصحف الخاصة في رأي الحفناوي، والذي أشار إلى أنَّ الصحف القوميّة هي الأخرى لن تصمد كثيرًا وفي القريب يمكن دمج ثلاثة إصدارات في إصدار واحد.
وقال إنَّ الصحف التي لم ترفع سعرها إلى 3 جنيهات ستتخذ القرار عاجلًا أم آجلًا.
وعلى الرغم من تولي عادل صبري رئاسة تحرير موقع "مصر العربيّة"، إلا أنَّه يرى أن المستقبل ما زال مفتوحًا أمام صناعة الصحافة الورقيّة، معارضًا الرأي القائل بقرب نهايتها.
وقال صبري لـ"أصوات مصرية"، إنَّ التكنولوجيا لا تنهي تكنولوجيا أخرى، مؤكدًا أنَّ الصحافة الورقيّة لن تنتهي، لكن سوقها تتناقص في صالح الصحافة الإلكترونية.
وعدد رئيس تحرير "مصر العربيّة" العوامل التي من خلالها يمكن للصحافة الورقيّة الاستمرار بل والنجاح أيضًا وتحقيق أرباح، ومنها: أن تطوّر من نفسها وتغيّر النظام الذي قامت عليه منذ نشأتها لمواكبة التكنولوجيا.
وأشار إلى أنَّ طريقة التفكير التي قامت عليها صناعة المحتوى في الصحف الورقيّة، ما زالت تطبّق إلى الآن، "وهذا بأي حال من الأحوال لا يمكن أن يُقدَّم للقارئ في 2017، فالقارئ الآن يبحث في مطبوعته الصباحيّة عن ما وراء الخبر، لا الخبر الذي عرفه فور حدوثه من خلال المواقع الإلكترونيّة وتطبيقات الهاتف".
ولفت إلى أنَّ نجاح الصحف الورقيّة مرهون بالتحول على المستويين المهني والفني عن طريق إنتاج القصة الخبريّة والدراسات والتقارير المميزة والانفرادات والاعتماد على الصحافة الاستقصائية، أو التحول لنظام البيع من الورقي الكامل إلى بيع المادة من خلال المواقع الإلكترونيّة ( نشر المواد مجانًا عبر المواقع الإلكترونيّة، مقابل حجب أخرى عن القرَّاء يتم الولوج إليها مقابل دفع مبلغ مالي كاشتراك أو نحوه).
وإلى جانب الأزمات التي تعانيها صناعة الصحافة من الداخل، يشير رئيس تحرير "مصر العربيّة" إلى أنَّ طبيعة القوانين السائدة في مصر حاليًا التي تحد من حرية تداول المعلومات، فضلًا عن القيود القانونيّة والأمنيّة التي جعلت الصحافة بوقًا للسلطة (أيًا كانت السلطة)، فاقمت الأزمة، وتحول الأمر إلى صحف دعائيّة تعمل لحساب السلطة وليس الشعب وتفتقد للمهنيّة.
وطالب حسن حلمي، مدير عام التوزيع في مؤسسة "أخبار اليوم" (حكومية)، بدعم الدولة لكل من الصحف الورقيّة القوميّة والخاصة، موضحًا أنَّ الصحف لن تستطيع الوفاء بالتزاماتها في ظل ارتفاع أسعار الطباعة والأحبار والورق.
وقال حلمي لـ"أصوات مصريّة"، إنَّ الأعباء الاقتصادية الصعبة التي يواجهها الجمهور لن تمكنه من شراء النسخة اليوميّة بأكثر من جنيهين حاليًا، وفي حال عزوف القارئ عن شراء مطبوعته الصباحيّة فلن يعود إلى شرائها مرة أخرى.
وأضاف أنَّ القارئ الذي تفقده الصحيفة خلال الوقت الحالي لا يعود إليها مرة أخرى.
وأبدى مدير التوزيع في "أخبار اليوم" أسفه لما آلت إليه أوضاع الصحافة الورقيّة، موضحًا، "جميع الصحف في مصر توزّع حاليًا أقل من 450 ألف نسخة يوميًا"، مقارنة بتوزيع مليون نسخة يوميًا من "أخبار اليوم" في فترة الثمانينيات والتسعينيات خلال القرن الماضي.
وعلى النقيض من توقع مدير عام التوزيع في "المصري اليوم" لقرب اندثار صناعة الصحافة الورقيّة، رأى رجب محمدي مدير عام التوزيع في مؤسسة "الأهرام" (حكومية)، أنَّ "من المستحيل أن تندثر صناعة الصحافة الورقيّة في مصر"، مدللًا على ذلك بارتفاع نسبة مبيعات صحيفة "الأهرام المسائي" في 2016 بنسبة 27%.
وقال محمدي لـ"أصوات مصرية"، إنَّ مؤسسة "الأهرام" لم تتأثر كثيرًا بارتفاع أسعار الطباعة، إذ انخفضت نسبة التوزيع بأقل من 3%، مقارنة بنسب وصلت إلى 30، و40، و50% في توزيع بعض الصحف.
ولفت إلى أنَّ بعض الصحف لجأت إلى تقليص عدد الصفحات لتقليل نسبة الخسارة جرّاء ارتفاع أسعار الطباعة.
أكثر مَن لمس أزمة انخفاض نسبة توزيع الصحف الورقيّة عن قُرب هم باعة الصحف أنفسهم. وعلى أحد أرصفة موقف سيارات "عبد المنعم رياض" ، جلست "أم سيد" أمام كومة من الجرائد، تشكو كساد البضاعة.
وتقول "لأصوات مصرية"، "كمان يومين وما حدش هيشتريها تاني". وتضيف، "الجرايد كلها بترجع. لمّا بيجيلنا 300 نسخة في اليوم بنرجّع منهم 200 وبنبيع 100 بس".
ووافقت عصمت أحمد بائعة صحف على أحد أرصفة حي الدقي، "أم سيد" الرأي، إذ عزت قلّة عدد الزبائن إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائيّة فضلًا عن انخفاض قيمة الجنيه أمام الدولار، قائلة "الطعام أهم من القراءة".
وطالت الأزمة أيضًا الصحافة الرياضيّة، وأكد إبراهيم المنيسي رئيس تحرير مجلة "الأهلي" -الناطقة باسم النادي الأهلي-، أنَّ ما من إصدار مطبوع في مصر إلا وتأثَّرت نسبة توزيعه.
وقال المنيسي لـ"أصوات مصريّة"، إنَّ الصحافة الورقيّة تواجه تحديات شرسة جدًا في العقدين الأخيرين، تمثّلت في ظهور وسائط إعلاميّة حديثة "أسرع في الوصول وأقل في التكلفة"، إضافة إلى تغيّر المناخ السياسي في الفترة الأخيرة الذي أدّى إلى دفع القرَّاء لسرعة المتابعة ومن ثم البحث الدائم عن الوسيلة الأسرع بحكم هذا الشغف.
وأضاف أنَّ المناخ السياسي المتغيّر واكبته ظروفا اقتصادية ضاغطة وطاحنة تمثَّلت في ارتفاع أسعار أحبار الطباعة والورق وجميع لوزام صناعة الصحافة الورقيّة، لافتًا إلى ارتفاع سعر نسخة مجلته الأسبوعيّة من 3 إلى 5 جنيهات.
ورأى أنَّ الصحافة الورقيّة في مأزق حقيقي يصل إلى "صراع الوجود نفسه" في ظل التحدي المهني العنيف والظروف الاقتصادية الطاحنة التي يعانيها المواطن والارتفاع الجنوني في أسعار الطباعة.
وقال محمد السيد (55 سنة) على المعاش، إنَّه لا يستطيع الاستغناء عن شراء الصحيفة الورقيّة، إلا أنَّه لم يعد يبتاع الجريدة بشكل يومي كذلك، "يوم كده ويوم كده وأهي ماشية".
أزمة الصحافة الورقية، لا تقتصر فقط على مصر. فعربيًا، طوت صحيفة "السفير" اللبنانيّة صفحتها الأخيرة بإصدارها العدد الرقم 13552، في الرابع من يناير الجاري، معلنة نهاية مسيرة امتدت لـ46 عامًا.
فيما قررت المجموعة الإعلامية المالكة لصحيفة "إندبندنت" البريطانية في الربع الأول من العام الماضي وقف الإصدار الورقي للصحيفة اليومية، والأسبوعية مع استمرار نسختها الإلكترونية، بعد مسيرة امتدت 30 عامًا منذ الظهور الأول في 1986.
تعليقات الفيسبوك