قبل أن تتصاعد المواجهة بين نقابة الصحفيين والسلطة الحاكمة في مصر نحو نقطة اللاعودة، كانت هناك مؤشرات قوية على أن الأمور ماضية نحو هذه الأزمة، مؤشرات أتت جميعها من السلطات، وواجهتها الجماعة الصحفية بصبرٍ انتهى مع اقتحام قوات الشرطة مقر النقابة.
يرى الرئيس أن الإعلاميين والصحافيين الذين ينتقدون سياساته مجموعة من الجهلة ويحمّلهم مسؤولة ضياع الدولة.
هذه المؤشرات تتجاوز الأزمة الأخيرة المتعلقة بالاحتجاجات التي جرت على سلم نقابة الصحفيين ضد التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، وتمتد جذورها إلى سنوات مضت وتتعلق بتصور لدى دولة السلطات التي حكمت في يوليو 2013 عن الدور الذي ينبغي أن يلعبه الإعلام في المجتمع.
في حديثه الأول عن الإعلام بينما كان وزيرًا للدفاع، كشف الرئيس عبد الفتاح السيسي عن استراتيجياته في التحكم “عن طريق زرع أذرع إعلامية” في المؤسسات الصحفية تتحكم فيما ينشر وما لا ينشر وكان الحديث حينها يدور حول تناول وسائل الإعلام لأخبار القوات المسلحة بعد ثورة 25 يناير.
هذا الحديث لم يكن في لقاء عام مذاع بل كان لقاءً خاصًا عقده السيسي مع مجموعة من ضباط القوات المسلحة، وقد تسرب ضمن ما تسرب من تسجيلات مسموعة ومصورة للرئيس، بعد الإطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي.
أما بعد أن أصبح السيسي رئيسًا، فقد تناول في عدة خطابات المسألة الإعلامية، بخطاب لم يكن مغايرًا لهذه الرؤية التي تتوق للسيطرة على وسائل الإعلام.
يعتقد السيسي أن دور الإعلام هو “أن يهمس في أذن المسؤول”، كما أنه يرى أن جمال عبد الناصر كان “محظوظًا” بالإعلام في زمنه، وقد عبر الرئيس عن انزعاجه البالغ من “مانشيت” يهاجم الحكومة بسبب عجزها عن حل أزمة الكهرباء، ثم خرج بجملته الأشهر “ما يصحش كدا” وكررها ثلاثًا، ردًا على انتقاد أحد الإعلاميين تجاهل رئاسة الجمهورية سقوط ضحايا في الإسكندرية بسبب هطول الأمطار بضع ساعات.
في هذا الخطاب بدت على الرئيس ملامح الغضب، وقال “بحس الناس دي (الإعلاميون) ولا عارفة أي حاجة، بس قدامي ميكروفون بتكلم فيه أو جرنال بكتب فيه. لا يا جماعة دي دولة هتضيع مننا كدا. بالطريقة دي إحنا بننشر جهل وعدم وعي حقيقي بين الناس”.
يرى الرئيس أن الإعلاميين والصحفيين الذين ينتقدون سياساته مجموعة من الجهلة ويحمّلهم مسؤولة ضياع الدولة.
وبعد أن انتهى الرئيس من وصم الإعلاميين، أطلق ما يشبه التهديدات قائلًا “بتقولوا كل حاجة فيها كارثة طب هو القطاع دا (الإعلام] مفيش فيه كوارث ولا إيه؟ أرجو إن إحنا نخلي بالنا من النقطة دي، والمرة الجاية أنا هاشكي للشعب المصري منكم”.
الكل تلقّف هذه الإشارات وكأنها ضوء أخضر، وبات عاديًا أن يمنع رجال الأمن الصحفيين من أداء عملهم خصوصًا في التغطيات الميدانية، وتزايدت على نحو ملحوظ حالات حبس الصحفيين في قضايا النشر، والتي يمنعها الدستور المصري مطلقًا، وسعت السلطات بدأب، ونجحت، في أن يتراجع ترتيب مصر في حرية الصحافة إلى المركز 157 عالميًا من أصل 180 دولة.
النيابة العامة من جهتها، توسعت في إصدار أوامر حظر النشر في معظم القضايا التي تشغل الرأي العام، فتحول الإجراء الاستثنائي، الذي يتخذ من أجل الحفاظ على أسرار الأمن القومي، أو الحياة الشخصية للأفراد، إلى أداة تستخدمها النيابة العامة من أجل تقييد حرية الصحفيين في جمع المعلومات ونشرها، وحرمان المواطنين من تداول هذه المعلومات.
هذا كله جرى فيما كان الرئيس يطلب من المصريين ألا يستمعوا إلى أحدٍ سواه، وألا يتحدث أحد عن قضية الجزيرتين.
وبينما كان الرئيس يعبّر عن استيائه من الأداء الإعلامي دون سندٍ واضحٍ من الدستور والقانون اللذين لا يمنحانه الحق في تقييم الأداء الإعلامي أو التعليق عليه، كان تقرير للجنة الحريات بنقابة الصحفيين يتحدث عن أكثر من 700 حالة لانتهاك القانون في تعامل السلطات مع الصحفيين، وكان الصحفيون فيها جميعًا، بطبيعة الحال، هم الضحايا.
عندما يعبر الرئيس عن استيائه من أداء إعلامي لم يتجاوز القانون، ولا يتطرق إلى تجاوزات قانونية محددة قامت بها السلطات بحق الصحفيين، فإننا نقف أمام مشكلة لم يكن ينبغي تجاهلها.
تزايد حالات انتهاك السلطات للقانون أثناء تعاملها مع الصحفيين يثير مخاوف حقيقية حول نوايا وزارة الداخلية من دخول نقابة الصحفيين بهذا الشكل ويضع على المحك تبريرات مسؤوليها لحادث اقتحام النقابة باعتباره “تنفيذًا للقانون” دون أي اعتبار لرمزية المبنى.
والمخاوف بطبيعة الحال تطرح تساؤلات كان معظمهما حول قانونية الاقتحام، ذلك أن ثمة تفسيرات عديدة للمادة 70 من قانون نقابة الصحفيين التي تحظر تفتيش المقار التابعة للنقابة في غياب ممثل للنائب العام ونقيب الصحفيين أو من يمثله، من بينها أنها تتعلق فقط بتفتيش المقر لا بدخوله وضبط مطلوبين بداخله.
ولكن الغرق في التفاصيل القانونية ليس هو القضية، لأن الأمر برمته في سياقاته السياسية، لا يتعلق أبدًا بالسعي إلى تطبيق القانون وإعلاء سيادته.
تضمن بيان النيابة العامة التصعيدي والذي استبق أعمال الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين خطأً قانونيًا فادحًا عندما نصبّت النيابة العامة نفسها الجهة “الوحيدة” المنوط بها تفسير نصوص القانون، وهو اختصاص لم يمنحه القانون للنيابة العامة أصلًا بل منحه لمحكمتي النقض، والإدارية العليا.
كما تضمن البيان نفسه خطأً آخر عندما أفصحت النيابة العامة عن رأيها في قضية تحقق فيها ذلك أن نقابة الصحفيين تقدمت ببلاغ إلى النائب العام ضد عملية الاقتحام.
أخطاء أخرى من نوعٍ آخر جرى فيها التعدّي على سيادة القانون من وزارة الداخلية هذه المرة، فالإعلامي أحمد موسى، والذي صدر بحقه حكم واجب النفاذ بالحبس، توجه إلى مطار القاهرة، وأخرج لسانه لسيادة القانون عندما مر من أمام الضباط الجالسين على مكاتب الجوازات، واستقل الطائرة الرئاسية، وغادر مصر بالمخالفة للقانون لتغطية جولة أوروبية للرئيس.
وحتى الآن لم تقدم الدولة أي تفسير للسماح لمحكوم عليه بمغادرة البلاد، وهي مسؤولية مشتركة بين وزارة الداخلية التي كان واجبًا عليها منع موسى من السفر وضبطه وتنفيذ الحكم القضائي، ورئاسة الجمهورية التي كان حريًا بها ألا تسمح لمحكوم عليه باستقلال الطائرة الرئاسية.
هناك أخطاء لا داعي لها تهز الثقة وتثير قلقًا له ما يبرره على مصير القانون في هذه الدولة التي بلغ الاستقطاب فيها مداه.
من أجل ذلك كله فإن اختزال الموقف في نقاش حول قانونية اقتحام نقابة الصحفيين يبدو طرحًا لأسئلة خاطئة لن تقدم إجاباتها أي حلٍّ للأزمة.
عندما يصف الرئيس الصحفيين والإعلاميين بالجهلة ثم تتوسع النيابة العامة في إصدار قرارات حبس الصحفيين وحظر النشر في معظم القضايا التي تهم الرأي العام، ثم تفرض الشرطة حصارًا جائرًا على نقابة الصحفيين، يصح القول بإن الأزمة أكبر من تنفيذ أمر ضبط وإحضار بحق صحفيين اثنين.
حتى لو كان اقتحام الشرطة مقر نقابة الصحفيين قانونيا فسيظل سابقة تاريخية، لأن عنوانها الأبرز هو إذلال الصحفيين لا تطبيق القانون.
إخلاص الشرطة في تطبيق القانون على كل المصريين أصبح محل شك.
واستهداف السلطات لحرية الصحافة في هذا البلد بات أقرب إلى يقين.
قرار اقتحام نقابة الصحفيين كان قرارًا سياسيًا واعيًا لكسر هيبة الرمز الذي يوفر الحماية للصحفيين والرد عليه ينبغي أن يكون ردًا مهنيًا لا ينشغل بالمسائل القانونية فمن يريد كسر الهيبة يستطيع استغلال ثغرات قانونية ولكن هذا لا يجب أن يعفيه من دفع الثمن.
تصدير انطباع بأن النقابة تخوض معركة سياسيةً مع السلطة الحاكمة تضليل فالمطالب الواردة في بيان للنقابة كلها تتعلق بردِّ اعتبار الجماعة الصحفية بعد إهانتها، وتوفير مناخٍ آمن يمارس في ظله الصحفيون عملهم، دون ان يتطرق البيان الى أي أزمات سياسية أو اقتصادية تتفاقم يومًا تلو الآخر.
حادث تدنيس ضباط الشرطة لنقابة الصحفيين ليس بداية الحرب على الصحفيين لكنه مآل طبيعي لسلوك الدولة المصرية من رأسها وحتى قواعد مؤسساتها وسلطاتها.
مع اقتحام نقابة الصحفيين انتهت المواجهة الملتبسة، وبدأت المعركة التي تأجلت كثيرًا بسبب صبر الجماعة الصحافية، صبرٌ ربما اعتقد البعض أنه ضعف، ولكن دروس التاريخ تؤكد أن الجماعة الصحفية هي دائمًا أقل من يخسر في كل المعارك التي تضطر إلى خوضها.
للتواصل مع الكاتب عبر تويتر Shaher Ayad