قال متخصصون ومتابعون للشأن القبطي إن موقف البابا تواضروس الثاني من حبس أحد رهبان دير وادي الريان في الفيوم بموجب حكم قضائي هو حلقة في "صراع مكتوم ومستمر منذ أكثر من 50 عاما بين الكنيسة وبعض الأديرة".
وكانت محكمة جنايات الفيوم أصدرت حكما بحبس الراهب بولس الرياني عامين، بعد اتهامه بالاعتداء على موظفين عموميين بوزارة البيئة أثناء إزالة سور الدير لعمل طريق دولي يربط بين محافظتي بني سويف والفيوم.
ونُقل الراهب بولس الرياني، يوم الثلاثاء، إلى سجن المنيا العمومي لتنفيذ حكم الحبس عامين، بحسب تصريح للأنبا مكاريوس المرشد الروحي لدير وادي الريان.
وقال البابا تواضروس الثاني بطريرك الكرازة المرقسية معلقا على الواقعة، في بيان سابق، إن "الكنيسة تعلن أن هذا المكان ليس ديرا كنسيا والساكنين فيه ليسوا رهبانا"، في تصريح أثار غضب الأوساط الشبابية بسبب ما قالوا إنه "تخلي الكنيسة عن رهبان الدير".
أصل الأزمة
وتعود أحداث القضية إلى عام 2010 عندما حرر موظفون بوزارة البيئة محضرا ضد الأب بولس الرياني وآخرين بتهمة إطلاق أعيرة نارية على موظفين، والتعدي على محمية طبيعية، وحرق "لودر" تابع لشركة المقاولون العرب.
وقرر البابا تواضروس الثاني، في مارس 2015، شلح 6 رهبان بينهم الأب بولس – أي نزع رتبة الراهب عنهم وطردهم خارج الدير- بسبب رفضهم تنفيذ قرارات اللجنة البابوية المشرفة على إدارة الأزمة، والتي قضت بالموافقة على استقطاع جزء من مساحة الدير لصالح مشروع الطريق الدولي.
وقال إيهاب رمزي أستاذ القانون ومحامي دير وادي الريان إن قوات الأمن ألقت القبض على الراهب بولس منذ 3 أشهر وأودعته قيد الحبس الاحتياطي حتى أصدرت المحكمة قرارا بحبسه عامين.
وأضاف رمزي، في تصريح لأصوات مصرية، أن الكنيسة على خلاف مع رهبان دير وادي الريان بسبب خروجهم عن طاعته، قائلا "البابا يعتبر الأب بولس ليس راهبا رغم أنه يمتلك أوراقا ثبوتية من مصلحة الأحوال المدنية تثبت رهبنته وتبعيته لدير وادي الريان بالفيوم".
وعزا محللون ومتابعون للشأن القبطي أسباب موقف الكنيسة من رهبان دير وادي الريان إلى سنوات طويلة تعود جذورها إلى البطريرك الراحل البابا شنودة الثالث وتتخذ أبعادا أعمق من دائرة النزاع على الأرض بين الدولة ورهبان الدير.
آخر معاقل الرهبنة المستقلة
يقول يوسف رامز، باحث وكاتب دراسة الديمقراطية والكنيسة القبطية المصرية، إن موقف قيادة الكنيسة من حبس الراهب بولس الرياني يأتي في سياق ما سماه بـ"صراع الكنيسة مع أخر معاقل الرهبنة المستقلة".
وتابع رامز "بعد وفاة الأب متى المسكين وتنصيب رئيسا لدير أبو مقار خفت حدة الصراع بين الدير وقيادة الكنيسة نسبيا.. لكن دير (وادي الريان) ظل هو نموذج حركة الرهبنة المستقلة الوحيد الذي يمثل بدوره خطرا على سلطة الكنيسة المتجذرة منذ عقود".
وعقب وفاة الأب متى المسكين في عام 2006 تولي تلميذه الأنبا ميخائيل –أكبر الأساقفة والمطارنة سنا آنذاك- رئاسة دير أبو مقار، لكنه أعلن استقالته في عام 2009 بقرار مفاجئ أرجعه البعض لكبر سنه وعدم قدرته على السفر ورعاية شؤون الدير، ثم عُين الأنبا إبيفانيوس مشرفا على الدير.
ويعتبر "أبو مقار" واحدا من الأديرة القبطية ذات الإمكانيات المالية العالية، حيث يمتلك حوالي 3 آلاف فدان زراعية، وبعض مزارع الحيوانات التي توزع منتجاتها على نطاق واسع داخل مصر.
مساع الاحتواء
ويوضح يوسف رامز أن القيادة الحالية للكنيسة سعت إلى احتواء دير "وادي الريان" على غرار دير أبو مقار من خلال الاعتراف به، لكنها سرعان ما تحول موقفها بعد فشل مساعي الاحتواء وإصرار رهبان الدير على الخروج من عباءة الكنيسة.
ويقول رامز "موقف البابا تواضروس الذي اعتبره البعض متخاذلا حيال حبس الراهب بولس الرياني ليس سوى حلقة في هذا الصراع ورغبة في كسر شوكة الدير الذي يستعصى على الرضوخ للكنيسة".
وكان البابا تواضروس الثاني أصدر قرارا في عام 2012 بالاعتراف بدير الأنبا مكاريوس بوادي الريان في الفيوم المعروف باسم "دير المنحوت"، بعد أشهر قليلة من تنصيبه على رأس الكاتدرائية المرقسية، لكنه عاد وتبرأ من الدير مرة أخرى.
صراع سيطرة ممتد
ويقول سليمان شفيق، الكاتب والباحث في الشؤون القبطية، إن محاولات البطريرك الراحل البابا شنودة الثالث السيطرة على حركة الرهبنة تعود إلى أكثر من 50 عاما مضت.
وتابع شفيق أن "الرهبنة بدأت على يد الأباء الأوائل في القرن الرابع الميلادي كحركة علمانية وليست كنسية.. لكن البابا شنودة أراد فرض سيطرته عليها بتحويلها إلى حركة (أكليروس متبتل) -أي رجال دين غير متزوجين- لتصبح جناحا من الكنيسة وليس خارجها".
ويدلل شفيق على قوله بوجود 120 أسقفا في المجمع المقدس وحوالي 1200 راهب في الأديرة على مستوى الجمهورية، أي كل 10 رهبان يخرج من بينهم أسقف واحد، كما يمثل القساوسة حوالي 50% من عدد الرهبان.
ويوضح سليمان شفيق أن أزمة دير وادي الريان بالفيوم تعد تجسيدا لأزمة الرهبنة في مصر، منتقدا استحواذ عدد قليل من الرهبان على آلاف الأفدنة من الأرض، وهو ما اعتبره عرضا سطحيا للمرض الأصيل.
ويضيف شفيق أن ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات حطمت مفهوم العزلة الذي تفرضه حياة الرهبنة، فأصبح الراهب متواجدا في قلب العالم وهو داخل قلايته "مكان إقامته بالدير"، وهو ما يعلن انتهاء العمر الافتراضي لمفهوم الرهبنة القديم.
بيزنس الروحانيات
وأشار سليمان شفيق إلى تبديل مفهوم العمل اليدوي البسيط بالأديرة بالمزارع الحيوانية والأفدنة الزراعية وورش المشغولات وتجارة الأثاث وغيرها مما سماه "بيزنس الروحانيات"، مؤكدا أن ماليات الأديرة بات يحكمها المصالح والتجارة والحسابات البنكية.
وقال شفيق إن "رهبان الأديرة كانت لهم علاقة رأسية بالله.. والآن أصبحت لهم علاقة أفقية بالعالم"، في إشارة إلى تنامي النزاعات حول أراضي الأديرة غير المرخصة.
وعَين البابا تواضروس الأنبا مكاريوس أسقف عام المنيا وأبو قرقاص مرشدا روحيا لدير وادي الريان بالفيوم، في مارس الماضي، وهو الأسقف الذي فوضته الكنيسة أيضا بالحديث في قضية الاعتداء على سيدة مسنة وسحلها في قرية الكرم بأبو قرقاص.
تقنين كنسي ومدني
ويقول الأنبا مكاريوس، أسقف المنيا والمرشد الروحي لدير وادي الريان، إن الكنيسة تحترم أحكام القضاء و"لن تطعن على الحكم أمام محكمة النقض".
ويضيف الأنبا مكاريوس، في مقابلة مع "أصوات مصرية"، أن الكاتدرائية المرقسية تنوي تقنين أوضاع دير وادي الريان على الصعيدين الكنسي والمدني.
وتابع أن خروج الدير من تحت عباءة الكنيسة وتنامي مشاكله مع الدولة في الفترة الأخيرة، دفع المجمع المقدس إلى إصدار قرار بتقنين أوضاعه الكنسية من خلال الاعتراف به وتعيين أسقف لمتابعة شؤونه الروحية والإدارية.
ويعتبر المجمع المقدس هو الهيئة العليا داخل للكنيسة القبطية الأرثوذكسية ويرأسه بطريرك الكرازة المرقسية.
تعليقات الفيسبوك