جنون الأرز..كيف فتحت الحكومة الباب للتجار والمهربين للتحكم في الأسعار؟

الخميس 29-12-2016 PM 06:30
جنون الأرز..كيف فتحت الحكومة الباب للتجار والمهربين للتحكم في الأسعار؟

مزارعو أرز في مدينة القليوبية - صورة من رويترز

- "التجارة" تكتشف مضارب أرز داخل المناطق الحرة العامة للتحايل على حظر التصدير

- الحكومة تسعى لاستيراد 500 ألف طن من الأرز رغم وجود  1.2 مليون طن فائض عن الاستهلاك

 -السلطيسي: الوزير الذي يستورد الأرز الهندي يحافظ على كرسيه على حساب الدولة

كعادتها في بداية كل شهر ذهبت هند إلى بقال التموين في منطقة القباري بالإسكندرية لصرف مقرراتها التموينية، لكنها فوجئت بعدم توافر الأرز المدعم، وعرض عليها البقال أن تحصل على أحد الأصناف المتوفرة بالسعر الحر، خارج منظومة التموين المدعمة.

"نشتري عادة حوالي 4 كيلو من الأرز بسعر 4.5 جنيه للكيلو، لكنني فوجئت عند صرف التموين هذا الشهر (ديسمبر) بعدم وجود أرز مدعم، وأن المتوفر أغلى، يباع بالسعر الحر البالغ 7 جنيهات" كما تقول هند.

ولأن الأرز طبق رئيسي في وجبات المصريين، خاصة في المحافظات الساحلية والمدن، ويقدمونه في أغلب وجباتهم، اضطرت هند إلى شرائه بالسعر الحر، لكنها اكتفت بكمية أقل من المعتاد حتى لا تضطر إلى دفع مبلغ إضافي.

وارتفعت أسعار الأرز المحلي لأكثر من الضعف، وتجاوز سعر الكيلو الواحد من بعض الأصناف 10 جنيهات، مقابل 3.5 و4 جنيهات في بداية العام.

وأظهر أحدث تقرير عن التضخم في أسعار المستهلكين، أن سعر الأرز في شهر نوفمبر من عام 2016 قفز بنسبة 56.5% مقارنة بنفس الشهر من العام الماضي، وفقا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.

ورصد محرر أصوات مصرية في جولة أن أسعار الأرز المعروض في اثنين من المجمعات الاستهلاكية الحكومية في منطقة وسط القاهرة، تراوحت بين 7 و9 جنيهات للكيلو الواحد، كما وصل في بعض المتاجر والسلاسل التجارية الأخرى إلى 11 جنيها.

أسعار الأرز في أحد المجمعات الاستهلاكية. صورة لأصوات مصرية

ورغم وفرة المحصول المحلي، الذي يُحصد في الفترة من أغسطس وحتى سبتمبر من كل عام، وحظر تصديره منذ أبريل الماضي، فإن الحكومة لم تنجح في شرائه من المزارعين والتجار من أجل طرحه في البطاقات التموينية، وذلك بسبب تخزينه وارتفاع سعره إلى مستويات لم يسبق لها مثيل.

واضطرت وزارة التموين الأسبوع الماضي إلى إلغاء مناقصة لشراء الأرز المحلي كانت قد تقدمت لها 54 شركة، بسبب "تقديم الشركات لأسعار أعلى من التي حددتها الحكومة، مما ينعكس على رفع أسعار الأرز على المواطنين"، بحسب بيان لوزارة التموين.

ويكفي إنتاج الأرز المحلي الاستهلاك ويفيض بنحو 1.2 مليون طن خلال الموسم الحالي، بحسب الأرقام الواردة في تقرير أصدرته وزارة الزراعة الأمريكية عن مصر في أكتوبر الماضي.

ويوضح التقرير أن إنتاج الأرز المصري يقدر بنحو 5.1 مليون طن في 2016، مقابل الاستهلاك السنوي البالغ نحو 3.9 مليون طن.

كما قال رجب شحاتة، رئيس شعبة الأرز في اتحاد الصناعات، في تصريح لوكالة أنباء الشرق الأوسط الرسمية، الأسبوع الماضي، إن إنتاج الأرز يكفي الاستهلاك المحلي لمدة تتراوح بين 16 إلى 18 شهراً.

كيف سيطر التجار على الأرز وتحكموا في سعره؟

بدأت أزمة ارتفاع أسعار الأرز المحلي إلى مستويات لم يسبق لها مثيل في النصف الثاني من العام الماضي، بعدما امتنعت الحكومة عن تكوين مخزونات من المحصول في بداية موسم حصاد 2015، مما سمح للتجار المضاربين بشراء المحصول بالكامل واكتنازه، الأمر الذي جعلها فما بعد تحت رحمة التجار الذين لا يرغبون في البيع للدولة، ويؤثرون تخزينه في وقت ترتفع فيه الأسعار يوميا.

وكانت الحكومات السابقة تخزن ما بين 200 ألف و500 ألف طن من الأرز في بداية الموسم، لمنع التجار من تخزينه ورفع الأسعار. لكن وزير التموين السابق، خالد حنفي، لم يشتر أي احتياطيات استراتيجية في الموسم الماضي.

وقال مصطفى النجاري، رئيس لجنة الأرز في المجلس التصديري للحاصلات الزراعية، إن امتناع وزارة التموين عن تكوين أرصدة من الأرز في بداية الموسم ترك المزارعين فريسة للتجار الذين احتكروا إنتاجهم بأسعار زهيدة، بينما كان المنتظر من الحكومة أن تشتري المحصول من الفلاحين في بداية الحصاد للحفاظ على قدرتها على توفير السلعة للمواطنين بأسعار مناسبة.

"الدولة لم تشتر الأرز بسعر مناسب من الفلاحين، وتركت التجار والمحتكرين يشترون كل المخزون" يقول النجاري.

وأضاف أنه "لأول مرة نجد أن سعر طن الأرز الشعير في مصر يصل إلى 4200 جنيه في موسم 2016، مقابل 1600 و1700 جنيه في الأعوام السابقة".

إنتاج الأرز المصري 5.1 مليون طن في 2016 مقابل الاستهلاك السنوي البالغ نحو 3.9 مليون طن

"من المفارقات العجيبة أيضا أن أسعار الأرز في العالم منخفضة لأن المعروض منه كثير، وفي فائض كبير منه داخل مصر، ومع ذلك سعر الأرز في مصر غالي!!"، يقول النجاري.

لكن سعيد عبد الله، وكيل أول وزارة التجارة والصناعة وعضو لجنة حكومية مسؤولة عن السلع الغذائية، برر لأصوات مصرية عدم شراء مخزون الأرز كما هو معتاد، بأن وزارة التموين لم تعد ملزمة في منظومة البطاقات التموينية الجديدة بتوفير حصة محددة من الأرز لكل مواطن، بعدما تحول الدعم إلى نقدي بدلا من العيني.

وقال عبد الله إنه "صحيح أن وزارة التموين لم تخزن الأرز، لكن الشركة القابضة للصناعات الغذائية كانت تحاول شراء الأرز لتوفيره في المجمعات الاستهلاكية التابعة لها، وفوجئت بارتفاع الأسعار بسبب جشع التجار وتخزين الأرز".

وقبل نحو عامين غيرت الحكومة نظام دعم السلع التموينية، فبدلا من حصول كل فرد على حصة محددة من 3 سلع فقط هي الأرز والزيت والسكر، فإنها حولته إلى دعم نقدي بقيمة 15 جنيها للفرد، وفتحت الباب أمام المواطنين المستفيدين لشراء مجموعة كبيرة من السلع بقيمة هذا الدعم.

ثم رفعت الحكومة قيمة الدعم لكل مواطن إلى 21 جنيها، بعد تعويم الجنيه وزيادة أسعار المواد البترولية في 3 نوفمبر الماضي.

ويستفيد حاليا نحو 71 مليون مواطن بالبطاقات التموينية في مصر، التي وصل عددها إلى 21 مليون بطاقة، حيث تصدر البطاقات للأسر وليس للأفراد.

ورغم المبرر الذي قاله عبد الله لعدم شراء المحصول مقدما، فقد حاول وزير التموين السابق السيطرة على الأسعار من خلال الإعلان عن استيراد 80 ألف طن من الأرز الهندي، كما أعلن عن عزم الوزارة شراء  مليوني طن أرز شعير من الفلاحين مباشرة في موسم حصاد 2016.

ولم تفلح محاولات حنفي في السيطرة على الأسعار، خاصة مع دخول شهر رمضان في مايو الماضي، وزيادة الطلب على الأرز.

وقال النجاري إن "ما شجع المحتكرين على زيادة سعر الأرز أنهم يعرفون أن الوزارة ليس لديها كميات منه".

ومع اقتراب موعد حصاد الأرز في يونيو الماضي، والذي كان يُعَوَل عليه في الحد من ارتفاع الأسعار، بل وانخفاضها مع زيادة المعروض في السوق، فإن وزارة التموين أعلنت عن رغبتها في شراء 2 مليون طن أرز شعير من الفلاحين، بسعر 2300 جنيه للأرز رفيع الحبة، و2400 جنيه للأرز عريض الحبة. لكن الفلاحين رفضوا البيع بهذه الأسعار.

وقال نادر نور الدين، أستاذ الزراعة في جامعة القاهرة ومستشار وزير التموين الأسبق، إن "السعر الذي وضعه خالد حنفي لشراء الأرز كان متدنيا للغاية، ولا يمكن للفلاح أن يقبل به، وما حدث أن التجار ضاربوا على هذا السعر من أجل الحصول على محصول الأرز كله من المزارعين".

مزارع أرز في القليوبية. صورة من رويترز

وقال مصطفى السلطيسي، نائب رئيس شعبة الأرز في اتحاد الصناعات، إن "الفلاحين لم يبيعوا الأرز للحكومة لأنهم رأوا أنهم باعوا بأسعار بخسة العام الماضي، ثم زادت الأسعار بعد ذلك ولم يحققوا ربحا، واستفاد التجار وحدهم".

إيهاب محمد، مزارع في مركز مطوبس بمحافظة كفر الشيخ، وهي واحدة من أشهر المحافظات التي تزرع الأرز، قال إن "الحكومة لا تهتم بالفلاح، وكل ما يعنيها هو الحفاظ على استقرار الأسعار، خاصة في المحافظات الرئيسية مثل القاهرة والإسكندرية والتي تقع في نطاق اهتمام الإعلام، بغض النظر عن حق المزارع في سعر مناسب".

وأضاف "إذا كان سعر طن الأرز الشعير المتبقي من الموسم الماضي يباع بثلاثة آلاف جنيه وأكثر، فكيف للحكومة أن تحدد سعر المحصول الجديد عند 2300 جنيه، بالطبع لن يبيع أحد للحكومة بهذا السعر".

وقال محمد شوقي وهو مزارع في مركز الحسينية في محافظة الشرقية، إن تكلفة الإنتاج على الفلاح ارتفعت بشكل كبير، كما أن أغلب صغار المزارعين يصرفون على أرضهم عن طريق "الديون"، وينتظرون المحصول بفارغ الصبر لسداد ديونهم.

"السعر الذي عرضته الحكومة لا يغطي تكلفة الزراعة، بعد ارتفاع أسعار الأسمدة والمبيدات وأجور العمال. هم يتركونا فريسة للتجار حتى نبيع لهم بأي سعر يعرضونه، لأن التجار يعلمون أننا لن نبيع للحكومة بهذا السعر الزهيد" يقول شوقي.

وأضاف "بعضنا يقدر يخزن الأرز بعض الوقت وينتظر سعرا أفضل، لكن أغلب المزارعين يبيعون بأفضل سعر متاح فور الحصاد، من أجل سداد ديونهم".

المحصول كله أصبح حاليا في يد التجار والحكومة ليس عندها أي كمية من الأرز

وتحت ضغط الفلاحين وامتناعهم عن بيع المحصول للحكومة أعلن وزير التموين الجديد، محمد علي مصيلحي، يوم 4 نوفمبر الماضي عن رفع سعر التوريد إلى 3 آلاف جنيه، لكن هذه الخطوة اتخذت بعد فوات الأوان.

"نصحنا وزير التموين الجديد برفع سعر الأرز لمستوى مرض للفلاحين حتى يبيعوا الأرز للحكومة بدلا من التجار، وكان السعر المناسب في هذا الوقت هو 3500 جنيه لطن الأرز الشعير، لكن الحكومة رفعت السعر إلى 3 آلاف جنيه فقط، في الوقت الذي يشتري فيه التجار بما يتجاوز 3200 جنيه للطن، فكان من الطبيعي ألا تحصل الحكومة على أي كمية بهذا السعر، وأن يكتنز التجار كل المحصول" يقول نور الدين.

وقال نورالدين إن "الأرز كله أصبح حاليا في يد التجار، يتحكمون في سعره كيفما شاءوا، والحكومة ليس عندها أي كمية من الأرز".

عمال في مضرب للأرز - رويترز

وأضاف نائب رئيس شعبة الأرز أسبابا أخرى لارتفاع سعر الأرز، من بينها الحملات التي تشنها مباحث التموين على سيارات نقل الأرز والمضارب المرخصة والتي أدت إلى حجبه ونقصه في السوق.

وتعلن وزارة التموين عبر شاشات الفضائيات المصرية أرقام هواتف لتلقي الشكاوى من المواطنين عن حالات إخفاء أو تخزين الأرز. وتعرض منح الشاكين مكافآت مالية.

"مطاردة مباحث التموين للتجار والمضارب أدت إلى الإحجام عن تداوله وعرضه فنقص في السوق، بما ساهم في مزيد من الارتفاع في سعر الأرز رغم وفرته" يقول السلطيسي.

وأشار إلى أن مناقصة الأرز التي طرحتها الحكومة ثم ألغتها مؤخرا كانت أيضا سببا في ارتفاع السعر.

"الحكومة عملت مناقصة للحصول على احتياجاتها لمدة 6 أشهر دفعة واحدة، بدلا من مناقصة كل شهر، كما هو معتاد، وفي ظل التحرك اليومي في أسعار الأرز، فإن كل العروض المقدمة كانت بأسعار مرتفعة تحسبا لارتفاع مستقبلي في الأسعار. كان عليهم أن يطرحوا مناقصات شهرية للحصول على أسعار تناسب الجميع" يقول السلطيسي.

تهريب الأرز لا يتوقف

يلعب تهريب الأرز- المحظور تصديره- إلى الدول المجاورة لمصر دورا في زيادة أسعاره بالسوق المحلي ونقص المعروض منه، وهو أمر تعترف به الحكومة نفسها.

ولأن الأرز المصري يباع بأسعار مغرية في الخارج لجودته وتفرده بين أنواع أخرى يزرعها العالم، فإن المستفيدين من حظر التصدير، هم المهربون الذين يحققون ثروات هائلة من تهريبه مقابل ثمن مرتفع، كما أنهم لا يسددون أي رسوم للدولة.

فخلال المؤتمر الصحفي الأول الذي عقده وزير التموين الجديد، محمد علي مصيلحي، في أكتوبر الماضي قال  لمن وصفهم بالتجار والمزارعين الشرفاء "ميصحش تهرب الأرز لدول مجاورة وتحرم المواطن المصري منه".

كما قال وزير التموين السابق، خالد حنفي، خلال اجتماع مع لجنة الشؤون الاقتصادية بمجلس النواب في يونيو الماضي، إن نقص المعروض من الأرز في السوق المحلي سببه تهريب الأرز عبر المنافذ الحدودية.

وتعترف شعبة الأرز في اتحاد الصناعات ولجنة الأرز في المجلس التصديري للحاصلات الزراعية بوجود تهريب، وإن كانتا لا تعتبرانه السبب الرئيسي في ارتفاع سعره بالسوق المحلي.

وقال الباشا إدريس، رئيس شعبة مصدري الحاصلات الزراعية في غرفة القاهرة التجارية، لأصوات مصرية، إن "تهريب الأرز في مصر يحدث بطرق ممنهجة وبتواطؤ مع مسؤولين في الجمارك خاصة في المنافذ الجمركية على الحدود مع السودان وليبيا، وفي موانئ الأدبية وبورسعيد ودمياط".

وأشار إدريس إلى أن أحد النظم الجمركية التي تسمى "السماح المؤقت" يعتبر بوابة خلفية لتهريب الأرز، حيث يتم استيراده من الخارج بهدف تبيضه وتعبئته من أجل تصديره مرة أخرى، لكن ما يحدث هو استبداله بأرز مصري عالي الجودة يعاد تصديره، بينما يدخل المستورد الأقل جودة إلى السوق المحلي.

ويقول سعيد عبد الله، الذي يشغل منصب رئيس قطاعي التجارة الخارجية والاتفاقيات التجارية بوزارة التجارة والصناعة، إن الوزارة اكتشفت وجود مضارب أرز حاصلة على ترخيص للعمل في إحدى المناطق الحرة الخاصة، التي تعفيها من الرسوم التصديرية، وهو ما يمثل تحايلا على القانون.

"وجهنا خطابا لهيئة الاستثمار المسؤولة عن المناطق الحرة، للتحقيق في هذا الأمر، لأنه لا يوجد مبرر لإقامة مضارب أرز في المناطق الحرة، التي أنشئت أساسا للشركات التصديرية"، كما يقول عبد الله، موضحا أن مصر لا تسعى لتشجيع تصدير الأرز، وإن سمحت به فإنها تفرض عليه رسوما كبيرة حتى لا يحدث توسع في تصديره على حساب السوق المحلي.

ويرى رئيس قطاعي التجارة الخارجية والاتفاقيات التجارية أن الموافقة على إنشاء مضارب أرز في المناطق الحرة يعد تحايلا ومنفذا للتهريب، ويقول "طلبنا من الهيئة التأكد من التعامل مع الحالات القائمة وعدم تكرار الموافقة مثل هذه المشروعات".

وتقول الحكومة إنها تعمل حاليا على خطة لنشر البوابات الإلكترونية لاكتشاف تهريب الأرز في كل المنافذ والموانئ.

موظفو الجمارك يضبطون شحنة أرز مهرب وسط أجولة من الفاصوليا البيضاء.صورة من صفحة مصلحة الجمارك على الفيسبوك.

ويوضح الباشا إدريس أن المهربين يتحايلون على طرق التفتيش الموجودة، حيث يتم تهريب الأرز المصري في حاويات تمر بشكل رسمي من المنافذ الجمركية، ولكن بعد إخفائه وسط أكياس من الملح أو الفاصوليا البيضاء داخل الحاوية.

ويقول نورالدين إن "مهربي الأرز لهم طرقهم الخاصة في التهريب، خاصة إلى ليبيا وتركيا والأردن والسودان، فإذا أغلقت الدولة طرق التهريب جيدا أمامهم فلن يجدوا حلا لتصريف كميات الأرز التي بحوزتهم إلا بطرحها في السوق المحلي".

الأرز الهندي سلاح لمواجهة التجار

أمام عزوف التجار والفلاحين عن توريد الأرز لوزارة التموين، قررت الحكومة استيراد 500 ألف طن، خاصة مع تكليف الرئيس عبدالفتاح السيسي لها بتكوين أرصدة من السلع الغذائية الأساسية تكفي لمدة 6 أشهر على الأقل.

كما يأتي الاستيراد كمحاولة من الحكومة لإجبار التجار والمزارعين المحليين على إخراج ما لديهم من كميات، والتوقف عن تخزينه.

ويقول رجب شحاتة، رئيس شعبة الأرز في اتحاد الصناعات، إنه لا توجد أزمة أرز في البلد، وان الحكومة تستورد لتكوين الرصيد الاستراتيجي المطلوب منها، ولتخفيف حدة الطلب على الأرز المحلي ليهدأ سعره.

نورالدين: الحكومة تفضل أن تدعم الفلاح الهندي على حساب الفلاح المصري

وقالت وزارة التموين إنها ستعوض نقص الأرز في البطاقات التموينية، الناتج عن إلغاء مناقصة الأرز المحلي، بطرح شحنة أرز مستوردة من الهند تصل إلى 35 ألف طن، تم الإفراج عنها بالفعل، مضيفة أن شحنة جديدة أخرى ستصل خلال أيام تقدر بنحو 75 ألف طن، وانها ستتطرحها بأسعار تقل عن الأسواق بنسبة 25% لتوفير احتياجات المواطنين ومواجهة غلاء الأسعار.

وأضافت الوزارة في بيان الأسبوع الماضي أنها ستعوض إلغاء المناقصة الداخلية بطرح مناقصات لاستيراد الأرز، وكذلك من خلال توزيع المعكرونة بسعر مخفض بنسبة 25% خلال أيام على بطاقات التموين، لتعويض نقص الأرز.

وقال نادر نورالدين إن استيراد الأرز الهندي يبدو كما لو أن الحكومة تفضل أن تدعم الفلاح الهندي على حساب الفلاح المصري، بالإضافة إلى إهدار العملة الصعبة الشحيحة في استيراد سلعة متوفرة محليا.

"وزير التموين قرر أن يستورد الأرز من الهند- أقرب الأصناف المستوردة للأرز المصري- بسعر 8 جنيهات في أرض المنشأ أو حوالي 450 دولارا للطن، بدلا من شرائه من الفلاح المصري بسعر 3.5 جنيه، هذا القرار يعكس قلة خبرة وعدم دراسة لمتطلبات البورصات والأسواق المحلية"، يقول نورالدين.

وقال مصطفي السلطيسي، إن "الوزير الذي يسمح باستيراد الأرز الهندي يحافظ على كرسيه على حساب الدولة، لأنه يعالج المشكلة بخطأ أكبر".

وأشار نورالدين إلى أن المستهلك المصري لا يفضل تناول الأرز الهندي، ويطلق عليه "الأرز البلاستيك" لأنه أقل جودة، كما أنه لا يتوافق مع نمط استهلاكه حيث يحتاج إلى فترة أطول للطهي، ولا يمكن تسخين الفائض منه.

8 سنوات من تضارب السياسات

بدأت محاولات الحكومة للحد من تصدير الأرز في عام 2006 عندما فرض وزير التجارة  والصناعة الأسبق رشيد محمد رشيد رسوم تصدير على الأرز، قبل أن يقرر حظر تصدير الأرز بكافة أنواعه في أكتوبر 2008، وذلك لتوفير متطلبات الاستهلاك المحلي، ورغبة من الحكومة في ثني مزارعي الأرز عن التوسع في زراعته لترشيد استهلاك المياه.

ومنذ 2008 وحتى الآن أوقفت مصر تصدير الأرز للخارج عدة مرات، لكنها كانت تعاود السماح بتصديره تحت ضغوط من التجار، وكانت أحدث مرة في أكتوبر من العام الماضي عندما سمحت بتصديره لمدة 6 أشهر، بشرط توريد طن أرز أبيض بقيمة 2000 جنيه  لها مقابل كل طن يتم تصديره للخارج، بجانب دفع رسوم قدرها 280 دولارا عن كل طن يتم تصديره.

وبعد انتهاء الستة أشهر عادت الحكومة لحظر التصدير مجددا في أبريل من العام الجاري وحتى الآن، رغم أن صادرات الأرز خلال هذه الفترة لم تزد على 40 ألف طن، مقارنة مع مليون طن فائض كان من المستهدف تصديره، بحسب بيانات وزارة التجارة.

وفي أغسطس الماضي قرر مجلس الوزراء حظر تصدير الأرز بكافة أنواعه بما في ذلك كسر الأرز الذي كان يُسمح عادة بتصديره، حتى لا يتخذ كمنفذ لتهريب المحصول، حيث كان البعض يصدر الأرز السليم باعتباره كسرا، بحسب سعيد عبد الله.

وفي أكتوبر الماضي قررت وزارة الري تخفيض مساحة الأراضي المسموح بزراعتها بمحصول الأرز في موسم 2017 بنحو 34.6% عن العام الماضي، حيث رخصت بزراعته في 6 محافظات بمساحة إجمالية تقدر بنحو 704.5 ألف فدان، مقابل نحو 1.076 مليون فدان الموسم الماضي.

ورغم أن الحكومة تحدد كل عام المساحات المقرر زراعتها إلا أن المزارعين يخالفون هذه المساحات، وتجاوزوا هذا العام 2 مليون فدان، بحسب شعبة الأرز في اتحاد الصناعات، ولجنة الأرز في المجلس التصديري للحاصلات الزراعية.

ويبدو تعامل الحكومة مع زراعة وتصدير الأرز في مصر وكأنه "تعمد للوقوع في الخطأ" كما يقول النجاري، موضحا أن السياسة التي يتم اتباعها في الملف منذ 8 سنوات لم توفر الأرز بسعر رخيص للمواطنين، ولم تمنع الفلاحين من زراعته، كما لم ترشد في استهلاك المياه.

وأضاف النجاري أن هذه السياسة التي أدت إلى فقدان أسواق التصدير للأرز المصري، كما أنها ضربت قطاع المَضارب الذي تقدر استثماراته بنحو 9 مليارات جنيه، بحسب دراسة أعدتها جمعية مستثمري بني سويف.

ورغم أن النجاري لا يؤيد فتح باب التصدير في الوقت الحالي، ولحين توفير الأرز بأسعار مناسبة في السوق المحلي، وهو ما يوافقه عليه كل من تحدث من الخبراء في التحقيق، إلا أنه يرى أن تعامل الحكومة مع ملف تصدير الأرز يأتي على طريقة "الباب اللي يجي منه الريح سده واستريح".

كما أن وقف التصدير يضيع على مصر العملة الصعبة التي كانت مقدرة على سبيل المثال بمليار دولار إذا صدرت المليون طن المستهدف تصديرها في آخر مرة فُتح فيها باب التصدير، في رأي رئيس لجنة الأرز في المجلس التصديري للحاصلات الزراعية.

ويري كل من النجاري ونورالدين أن هناك مساحات من الأراضي الزراعية لا يمكن زراعتها سوى بالأرز، خاصة في الدلتا، من أجل الحفاظ عليها من التملح بسبب مياه البحر الجوفية.

فلاحون مصريون في حقل لزراعة الأرز بالدلتا- رويترز

وقال نورالدين إن قرار تخفيض مساحة الأرز إلى حوالي 700 ألف فدان فقط يمثل خطورة على جودة التربة في أراضي الدلتا ويهدد بتبويرها وتدهور إنتاجيتها، كما إن هذه المساحة المصرح بها لن تنتج سوى 50% فقط من احتياجات المصريين، وهو ما يعني استيراد الباقي بالعملة الصعبة.

وطالب بضرورة تراجع وزارة الري عن هذا القرار والسماح بزراعة 1.7 مليون فدان من أجل حماية أراضي الدلتا، وتوفير الاكتفاء الذاتي من المحصول للمصريين.

ويقول النجاري إنه على الحكومة أن تضع استراتيجية واضحة تسمح باستيراد وتصدير الأرز لتوفير احتياجات المواطنين، وفي نفس الوقت الاستفادة من العملة الصعبة عند تصدير الأرز.

"المواطن لازم يتعود مع الوقت على تغيير نمط استهلاكه، والتعود على الأرز المستورد، الأقل سعرا، ليس لأنه أقل جودة، ولكن لأنه متوفر بكثرة، أما الأرز المصري المميز غالي السعر، نصدر جزءا منه للخارج ونجلب العملة الصعبة للبلاد" بحسب النجاري.

وقال النجاري إن هناك فائضا في السوق المحلي يصل إلى مليون طن وهذا الفائض لا يمكن تخزينه فترات طويلة، حتى لا يتلف، كما أنه محظور تصديره في الوقت الحالي، وعلى الحكومة أن تبحث هذا الأمر، لأن مصير هذه الكميات سيكون "التهريب، أو الطحن كعلف للحيوانات".

وتُظهر بيانات وزارة التجارة والصناعة التي حصلت عليها أصوات مصرية أن قيمة صادرات الأرز تراجعت بنسبة 86% في آخر 10 سنوات عقب محاولات الحد من التصدير في عام 2006.

إذ أن البيانات تكشف أن صادرات الأرز بلغت 308.71 مليون دولار في عام 2006 وارتفعت لذروتها في عام 2007 لتصل إلى 413.06 مليون دولار، ثم هوت إلى 1.85 مليون دولار فقط في عام 2008 الذي صدر فيه قرار حظر التصدير.

لكن صادرات الأرز تعافت في عامي 2009 و2010 ثم تدهورت خلال السنوات التي تلت ثورة 25 يناير 2011.

وكان تراجع صادرات الأرز واحدا من الأسباب الرئيسية التي ساهمت في تراجع حصيلة التصدير (أحد المصادر الرئيسية لجلب العملة الصعبة للبلاد) وفقا لما قاله وزير التجارة والصناعة السابق، منير فخري عبد النور.

وتؤكد دراسة لجمعية مستثمري بني سويف أن التصدير "المتهم دائما بأنه السبب في رفع أسعار الأرز" لا يمثل سوى 30% فقط من حجم المحصول في السنة، وأن أعلى كمية تم تصديرها للخارج في السنوات الماضية لم تتعد 700 ألف طن، في وقت كان الفائض فيه عن الاستهلاك أكثر من مليون طن.

فلاحون مصريون في حقل لزراعة الأرز بالدلتا- رويترز

واقترحت الدراسة لحل أزمة الأرز المتكررة سنويا، أن تعلن الحكومة عن سعر "عادل" لشراء الأرز من المزارعين في وقت مبكر وقبل موسم الزراعة، وأن تضع آلية لشراء المحصول سواء عن طريق بنك الإئتمان والتنمية أو مضارب القطاع العام، مع تشديد الرقابة على الشركات التي تتعامل في تجارة الأرز والتأكد من التزامها بالقوانين واللوائح حتى لا تقوم بتخزينه واحتكاره.

واتفق السلطيسي مع هذا الرأي مقترحا شراء نصف طن من كل فدان يتم زراعته بسعر 3500 جنيها، لتكون الحكومة مخزونا استراتيجيا منه توازن به السعر في السوق وتحفظ للفلاح حقه وتحميه من مضاربة التجار والمحتكرين.

كما طالب النجاري بضرورة أن تعمل الحكومة على استباط أصناف جديدة من الأرز، لا تحتاج زراعته إلى مياه كثيرة.

وقال نورالدين إن مركز البحوث الزراعية توصل بالفعل إلى أصناف جديدة تستغرق زراعتها 70 يوما فقط، ولكن دون اهتمام حقيقي من الحكومة بتبني تسويقها للمزارعين.

ومع استمرار ارتفاع سعر الأرز حتى الآن فإنه من غير الواضح ما إذا كانت الحكومة سوف تستطيع أن تضع حلا واضحا واستراتيجية، تسمح بانخفاضه للمستوى الذي يناسب هند المواطنة السكندرية، أم أن الحكومة ستظل تطلب منها أن تقلل استهلاك أسرتها من هذه السلعة الأساسية، على غرار مطالبة وزير التموين الحالي للمصريين بأنه "مش لازم محشي دلوقتي"، أو مطالبتها باستخدام "لسان العصفور" بدلا من الأرز في المحشي، كما نصح وزير التموين الأسبق جودة عبد الخالق من قبل؟

(أُعِد هذا التقرير ضمن برنامج ثروة الأمم وهو برنامج خاص بتطوير المهارات تابع لمؤسسة تومسون رويترز).

التصميم والتطوير بواسطة WhaleSys