رحل الملاكم الأسطورة محمد علي كلاي عن عالمنا الليلة الماضية عن 74 عاما بعد حياة حافلة بهر فيها العالم بأداء رياضي جمع بين السرعة والرشاقة والقوة، وبلمساته الإنسانية، وبتمسكه بمبادئه رغم ما دفعه من ثمن باهظ وما أثاره من جدل، ليصبح الشخصية الرياضية الأكثر جاذبية وإثارة للجدل في القرن العشرين.
وقال بوب جانيل المتحدث باسم الأسرة الليلة الماضية (فجر السبت بتوقيت القاهرة) إن الملاكم "الأعظم" توفي بعد يوم من نقله إلى مستشفى بمنطقة فينيكس في ولاية اريزونا جنوب غرب الولايات المتحدة لإصابته بمشكلة في الجهاز التنفسي.
وقالت صحيفة "نيويورك تايمز" إن كلاي كان الأكثر اثارة إن لم يكن الأفضل على الإطلاق بين ملاكمي الوزن الثقيل بعدما قدم على حلبة الملاكمة أداء بارعا وصفه بأنه "يحلق كالفراشة ويلسع كالنحلة."
لكنه كان أكبر من مجرد رياضي موهوب. وقالت الصحيفة إن سرعة بديهته، وشخصيته المرحة، وثقته البالغة بنفسه، وقناعاته الشخصية، كانت أمورا خلقت درجة من الجاذبية لم تكن الحلبة وحدها لتتسع لها. وأمتع الناس بكلماته مثلما امتعهم بقبضتي يديه.
وقال عنه الممثل الكوميدي والناشط الحقوقي الامريكي الأسود ديك جريجوري "عاش بأرواح كثيرة لأجل كثير من الناس. كان باستطاعته أن يقول للناس البيض نيابة عنا.. اذهبوا الى الجحيم."
وكان كلاي نجما مثيرا للاستقطاب بدرجة لم يعرفها عالم الرياضة من قبل، وكان موضع الإعجاب والذم على السواء في الستينات والسبعينات بسبب مواقفه الدينية والسياسية والاجتماعية. ورفض التجنيد للمشاركة في حرب فيتنام، وناهض التمييز العنصري، وتحول من المسيحية إلى الاسلام متخليا عن اسم "الرق" كاسيوس كلاي ليحمل اسما اطلقته عليه جماعة "أمة الاسلام"، وهي تصرفات اعتبرتها المؤسسة المحافظة تهديدات جدية في حين اعتبرتها المعارضة الليبرالية تصرفات تحد نبيلة.
وقالت الصحيفة إنه سواء كان موضع حب أو كراهية فقد ظل على مدى 50 عاما أحد أشهر الناس على وجه الأرض.
* البداية
ولد كاسيوس أو محمد علي في لويزفيل بولاية كنتاكي يوم 17 يناير 1942 لأسرة مكافحة. ولم يكن طالبا متفوقا في دراسته. ودخل عالم الملاكمة في سن 12 عاما بعد سرقة دراجته التي كان تركها في شارع في وسط المدينة. وقدم بلاغا وقتها إلى ضابط الشرطة جو مارتن الذي كان يدير مركزا لتعليم الملاكمة. وحين استعرض الصبي أمامه ما يمكن أن يفعله باللص لو عثر عليه، نصحه الضابط بأن يتعلم أولا كيفية توجيه اللكمات بطريقة صحيحة.
وكرس كلاي نفسه للتدريبات، وأظهر موهبة متميزة في الترويج لبرنامج عن الملاكمة في التلفزيون المحلي باسم "ابطال الغد". وسرعان ما أصبح نجم البرنامج.
وفي الثامنة عشرة من عمره سافر إلى روما للمشاركة في الدورة الأولمبية لعام 1960 حيث فاز بلقب وزن خفيف الثقيل.
وحين عاد إلى لويزفيل كان يطلق عليه "الزنجي الأولمبي"، ورفض كثير من المطاعم في وسط المدينة استقباله. وتردد أنه بعد واحد من تلك المواقف، ألقى بالميدالية الأولمبية في نهر أوهايو. لكن محمد علي قال لاحقا إنه فقد الميدالية ببساطة.
* اللون لا يجعل الإنسان شريرا
ودخل كلاي عالم الاحتراف بعدما وقع عقد رعاية مع مجموعة محلية تضم 11 مليونيرا ابيض. وتحول إلى الاسلام بعدما تعرف على جماعة "أمة الاسلام" التي نسب لها الفضل في تقديم رسالة للأمريكيين من أصل افريقي بأن "الأسود جميل" في وقت كانوا يعانون فيه من المهانة والاضطهاد. وقال "اللون لا يجعل الانسان شريرا. المهم هو القلب والروح والعقل. ما في الخارج هو مجرد زينة."
وعرف كلاي النجاح مبكرا في حياته الرياضية، وبرع أيضا في صياغة توقعات على هيئة تعليقات متناغمة تفوقت على تعليقات الصحفيين الرياضيين، وكانت تتحقق بالفعل في الأغلب. وقبل لقاء مع الانجليزي هنري كوبر في استاد ويمبلي عام 1963 قال كلاي "هذه ليست رقصة.. كوبر سيذهب في الخامسة". ونجح كوبر في جعل كلاي يترنح في الجولة الرابعة ليبدو أقرب للفوز. لكن كلاي أجهز على خصمه في الجولة الخامسة كما توقع قبل المباراة.
وفي سن الحادية والعشرين ظهر كلاي على غلاف مجلة تايم بعدما خاض 15 مباراة احترافية فقط.
وكان يعمد إلى استفزاز خصومه، ويتحدى توقعات الصحفيين. وقبل مباراته مع سوني ليستون الرهيب في فبراير 1964 ، ثارت المخاوف من أن يتعرض الملاكم الشاب لضرر كبير من لكمات ليستون الذي كانت المراهنات 7-1 لصالحه
لكن كلاي لجأ إلى السخرية من خصمه قبل المباراة ووصفه بأنه "دب كبير قبيح". وردد قولته "احلق كالفراشة والسع كالنحلة.. دمدم أيها الشاب.. دمدم."
وسيطر كلاي على المباراة مبكرة، وتراقص على الحلبة ليتجنب لكمات ليستون المصوبة إلى وجهه. وفي الجولة السابعة تهاوى ليستون على مقعده وتدلت ذراعه اليسرى بجانبه غير قادر على تحريكها، واستسلم بعدما أصيب بتمزق عضلي بسبب اللكمات الطائشة الكثيرة التي فشلت في إصابة كلاي الذي انتزع لقب بطل العالم لأول مرة.
وبعد أسابيع أعلن كلاي اعتناق الاسلام وتغيير اسمه.
* المباديء أهم من الأموال
وفي عام 1966، دخل محمد علي في أزمة رفض تجنيده في حرب فيتنام. وكان قد استبعد في البداية من التجنيد بعدما اعتبر غير مؤهل في اختبار للكفاءة العقلية لكن القرار تغير لاحقا بعد تخفيف المعايير. وثارت شكوك البعض في القرار وقتها لأنه تزامن مع انتهاء عقد رعاية مليونيرات لويزفيل للملاكم المتألق وبدء تولي أعضاء من جماعة "أمة الاسلام" العمل كمديرين لأعماله.
وأعلن صراحة في 28 ابريل 1967 رفضه التجنيد وطلب منحه اعفاء لاسباب تتعلق بقناعاته وضميره. وسرعان ما جرد من ألقابه الرياضية وصدر حكم باعتباره متهربا من التجنيد لكنه استأنف الحكم. ولم يلعب ثانية حتى بلغ التاسعة والعشرين من العمر ليفقد ثلاث سنوات ونصف في أوج مجده الرياضي كان يمكن أن يكسب فيها الملايين.
وعاد محمد علي إلى الحلبة في 26 اكتوبر 1970 بعدما وصلت قضيته إلى المحكمة العليا. وفي 28 يونيو 1971 اقتنعت المحكمة بأسبابه وأعفته من التجنيد. وخلال عرض القضية على المحكمة العليا التقى محمد علي مع جو فريزر في مواجهة حامية فاز فيها فريزر بالنقاط.
وبعدما صدر قرار المحكمة العليا، كان محمد علي يقترب من عامه الثلاثين واعتبر النقاد الرياضيون أن زمنه قد ولى. لكنه خاض بعدها 14 مواجهة فاز في 13 منها وبينها مباراة ثانية مع فريزر الذي كان خسر اللقب أمام جورج فورمان.
وحين التقى محمد علي مع فورمان في 30 اكتوبر 1974 في زائير (الكونجو الديمقراطية حاليا)، كان الترشيحات ضد محمد علي الذي يكبر خصمه بسبع سنوات. وحصل كل منهما على خمسة ملايين دولار وهو ما كان مبلغا هائلا بصورة غير عادية في ذلك الوقت. لكن محمد علي تألق في الأجواء الأفريقية، واتبع اسلوبا تكتيكيا على الحلبة لانهاك خصمه حيث كان يستند إلى الحبال ويميل بظهره للوراء ليتجنب لكمات فورمان القوية التي كانت تصيب بالأساس الكتف والذراعين. وفي الجولة الثامنة، وصلت الإثارة ذروتها حين انهال محمد علي بمجموعة من اللكمات المتلاحقة على خصمه ليستعيد اللقب. ومال حينها على الصحفيين متسائلا "ماذا قلت لكم؟".
* تكريم في البيت الأبيض
وبعد سنوات من تحدي موقف الحكومة الأمريكية في حرب فيتنام، استقبل محمد علي في البيت الابيض لأول مرة في ديسمبر 1974 من جانب الرئيس جيرالد فورد فيما كان مؤشرا على التحول في موقف امريكا من البطل العالمي.
ونجح محمد علي في الدفاع عن لقبه عشر مرات في السنوات الثلاث التالية لكن بتكلفة عالية لجسده. وهزم فريزر في لقاء ثالث بينهما في مانيلا عام 1975 لكن محمد علي وصف المعاناة خلال المباراة التي استمرت 14 جولة بأنها كانت أقرب إلى الموت.
وفي عام 1978 فقد لقبه ثم استعاده أمام ليون سبينكس. وأصبح أول من يفوز ببطولة العالم ثلاث مرات في مناسبات متفرقة. ورفض نصائح الأطباء بضورة الاعتزال بعدما بدأت تظهر عليه علامات البطء في رد الفعل. ولقي هزيمة منكرة أمام لاري هولمز عام 1980 . وخاض آخر مبارياته أمام تريفور بيربيك عام 1981 في جزر الباهاما.
وأصيب محمد علي بمرض باركنسون أو الشلل الرعاش بعد حوالي ثلاث سنوات من اعتزاله الملاكمة عام 1981. وعانى من المرض لفترة طويلة وهو ما أثر على طريقة كلامه وحركته.
ومع هذا ظل وصف "الأعظم" الذي أطلقه بطل الملاكمة على نفسه في أيام شبابه له صدى حتى النهاية بين الملايين من محبيه في أنحاء العالم ممن أعجبوا بشجاعته داخل حلبة الملاكمة وخارجها.
وبعد انتشار خبر وفاته كتب فورمان على موقع تويتر "ذهب جزء مني... أعظم جزء."
وعلى تويتر أيضا، كتب الملاكم روي جونز بطل الملاكمة السابق الذي بدأ بزوغ نجمه في سنوات تألق كلاي "هناك حزن كبير في قلبي لكني راض ومرتاح لأن الملاكم الأعظم يرقد في سلام في المكان الأعظم."
وخلال سنوات بطولاته وبعدها التقى بعشرات من زعماء العالم، وزار مصر عامي 1964 و1986 . وفي عام 2005 استقبله الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في البيت الأبيض مجددا ووصفه بأنه أعظم ملاكم في كل العصور.
* إسعاد الناس
وامتد تأثير محمد علي لما هو أبعد كثيرا من حلبات الملاكمة. وقالت وكالة رويترز إنه أصبح المتحدث غير الرسمي باسم ملايين السود والمقهورين في أنحاء العالم لرفضه المهادنة في آرائه ولوقوفه أمام السلطات البيضاء.
وأمضى أغلب وقته في سنواته الأخيرة بمنزله في بارادايز فالي بولاية اريزونا حيث كان يستمتع بمشاهدة الأفلام القديمة، ويحتفظ بلمساته الانسانية في لقاءاته القليلة مع الناس. وكان يغادر المنزل لحضور جلسات العلاج الطبيعي أو الذهاب إلى السينما أو المسارح. وتقول زوجته لوني وليامز إنه نادرا ما كان يجري مقابلات تلفزيونية لأنه لم يعد يحب الصورة التي يبدو بها أمام الكاميرا.
وأضافت "لكنه كان يحب إعجاب الجماهير. ورغم أنه أصبح ضعيفا بصور لا يمكنه السيطرة عليها إلا أنه لم يفقد براءته الطفولية ولا طبيعته الإيجابية المشرقة. النكات والمزحات والحيل السحرية. كان يريد أن يمتع الناس.. أن يجعلهم سعداء."
تعليقات الفيسبوك