تحليلات وآراء

نشرت مجلة «الإيكونوميست» البريطانية منذ أيام موضوعا يتناول التحسن الذى طرأ على الاقتصاد المصرى نتيجة القرارات الحكومية الأخيرة والاتفاق مع صندوق النقد الدولى.

وقد اعتبرت هذه المجلة الاقتصادية الرصينة أن إقبال المستثمرين الأجانب على شراء السندات الحكومية، وزيادة تحويلات المصريين من الخارج، وارتفاع حجم الصادرات والاحتياطى الدولارى لدى البنك المركزى، من علامات هذا التحسن.

ومع أن الموضوع لم يغفل الإشارة إلى المخاطر والتحديات التى تواجه الاقتصاد المصرى، إلا أنه بشكل عام يعبر عن حالة التفاؤل الحذر السائدة فى التقارير الدولية والإعلامية.

وهذا الاتجاه لا يستند فقط إلى المؤشرات السابقة، وإنما أيضا إلى التوقعات بزيادة الاستثمار الأجنبى نتيجة لتحرير سعر الصرف، والتحسن التدريجى فى عوائد السياحة، وقرب انتاج الغاز الطبيعى من حقول البحر المتوسط، واستعداد المجتمع الدولى لمساندة مصر فى ضوء الأوضاع الإقليمية الراهنة.

أن تعود مصر على قائمة الدول التى يتابعها المحللون والمستثمرون والمؤسسات الدولية فى حد ذاته أمر جيد، خاصة بعد بقائنا خارج الخريطة الاستثمارية العالمية طوال السنوات القليلة الماضية.

ولكن إذا اعتبرنا أن الهدف النهائى ليس مجرد تحسين المؤشرات الاقتصادية الكلية ولا الحصول على الاهتمام العالمى، بل ما يؤدى إليه ذلك من تحسن حقيقى فى مستوى معيشة المواطنين، فإن إشكالية العلاقة بين النمو الاقتصادى والتنمية الاقتصادية المستدامة تطرح نفسها مرة أخرى.

لقد شهدت مصر عدة مرات خلال الأربعين عاما الأخيرة ظاهرة التحسن فى المناخ الاستثمارى، وزيادة التشغيل والتصدير والنمو، دون أن يصاحب ذلك تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تحدث طفرة مماثلة فى مستويات معيشة المواطنين.

وكانت آخرها فى السنوات الخمس السابقة على ثورة يناير حينما بلغت معدلات الاستثمار والتشغيل والنمو معدلات غير مسبوقة طوال العقود السابقة، ولكن زادت معها نسبة الفقر، كما زاد الشعور فى المجتمع بأن قطاعات واسعة منه غير قادرة على التمتع بثمار هذا النمو الاقتصادى.

وفى تقديرى أن هذا التناقض ليس بعيدا عن تفكير المسئولين عن الشأن الاقتصادى فى الوقت الراهن خاصة حينما تظهر على السطح علامات للتذمر والشكوى على نحو ما حدث مع مظاهرات الأسبوع الماضى بسبب توزيع الخبز المدعوم.

ومع ذك تظل القناعة السائدة فى دوائر صنع القرار الاقتصادى أن التحسن فى المؤشرات الكلية وزيادة الاستثمار والتصدير والنمو سوف يؤدون حتما فى نهاية المطاف إلى انخفاض البطالة واستقرار الأسعار وزيادة الانتاج، وبالتالى إلى تحسن مستوى المعيشة.

وهذه الفرضية هى تحديدا ما ينبغى التحذير منه لسببين رئيسيين:

السبب الأول أن تجربة مصر قبل ثورة يناير وتجارب العديد من البلدان التى قامت بتنفيذ برامج للإصلاح المالى فى نصف القرن الماضى تؤكد أن الاستثمار والتصدير والنمو شروط ضرورية ولازمة لتحقيق التنمية الاقتصادية، ولكنها ليست كافية بذاتها، بل يجب أن تصاحبها سياسة اجتماعية تعمل على توزيع الدخول والثروات بشكل متوازن، وتحسين ظروف العمل، وتوجيه الموارد نحو التنمية البشرية، ومقاومة الممارسات الاحتكارية، وتوفير الفرص المتكافئة للمواطنين للتعلم والتقدم والمنافسة، والتدخل مباشرة لحماية الطبقات الأكثر فقرا.

هذه الآليات ضرورية لكى يكون هناك توزيعا متوازنا لثمار النمو.

أما اختزال قضية العدالة الاجتماعية فى المزيد من المعاشات والمنح دون أن تصاحبها سياسة اجتماعية أكثر عمقا وشمولا، فقد يساهم مؤقتا فى تخفيف حالات الفقر المدقع، ولكنه لا يؤدى إلى تضييق الفجوة بين الثراء والفقر ولا تحقيق السلم الاجتماعى.

أما السبب الثانى فهو أن ترجمة النمو الاقتصادى إلى تحسن فى معيشة المواطنين لن يكون ممكنا طالما ظل المناخ السياسى مقيدا للحريات ومتجاهلا للدستور والقانون ومعاديا للتعدد، لأن مفهوم مستوى المعيشة لا يتحدد فقط بما ينتجه المجتمع أو يستهلكه أو يصدره، بل أيضا بشعور المواطن بأن له حقوقا، وأن قانونا يحميه، وأن كرامته وإنسانيته محل احترام.

وطالما ظلت الفجوة تتسع بين حرص الدولة على تحقيق الإصلاح الاقتصادى وإصرارها على تجاهل الإصلاح السياسى، فإن النمو الاقتصادى لن يترتب عليه شعور فى المجتمع بالرضاء والطمأنينة والعدالة.

المؤشرات الاقتصادية الكلية تبدو اليوم أفضل مما كانت عليه قبل عام مضى، والبلد أمامه فرصة للخروج من عنق الزجاجة، ولكن إذا استمر تجاهل الواقع الاقتصادى الذى يعانى منه الناس، والحاجة لسياسة اجتماعية أكثر عدالة وشمولا، وضرورة تحقيق انفراج عاجل فى المناخ السياسى، فإن فرصة تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية قد تضيع كما ضاعت من قبل.

نقلا عن الشروق.

تعليقات الفيسبوك

التصميم والتطوير بواسطة WhaleSys