يوم الأربعاء ٢٠ أبريل عام ٢٠١١ كان العنوان الرئيسى للصفحة الأولى من جريدة «الأخبار» الذى أبرز باللون الأحمر كالتالى: مبارك المتهم الأول فى قتل الثوار وتحته ظهر عنوان آخر يقول: مبارك أمر بإطلاق الرصاص الحى والضحايا ٨٤٦ شهيدا و٦٥٠٠ مصاب. أمس الجمعة ٣ مارس ٢٠١٧ نشرت الصحيفة ذاتها على يسار الصفحة الأولى عنوانا باللون الأسود على أربعة أعمدة نصه: حكم نهائى ببراءة مبارك فى قتل المتظاهرين. وهو الخبر الذى أخفته جريدة الأهرام فى صفحة الحوادث رقم ٢٦، وآثرت ألا تبرزه على الصفحة الأولى.
العنوان الأول جرى استخلاصه من تقرير رئيس النقض الأسبق فى أحداث ثورة يناير، الذى أعلنه صبيحة اليوم السابق «١٩ أبريل». أما العنوان الثانى فقد كان قرار رئيس النقض الحالى فى اخر جلسة لمحاكمة الرئيس الاسبق حسنى مبارك فى قضية قتل المتظاهرين أثناء ثورة يناير. ومما له دلالته فى هذا الصدد أن تقرير رئيس النقض الأسبق المستشار عادل قورة أعلن على الملأ فى مؤتمر صحفى. أما قرار رئيس النقض الحالى المستشار أحمد عبدالقوى فقد صدر فى جلسة عقدت بأكاديمية الشرطة، التى انتقلت إليها محكمة النقض فى إجراء لم تلجأ إليه طوال تاريخها. «منذ انشائها فى عام ١٩٣١». وكان قضاة النقض قد رفضوا الانتقال إلى الأكاديمية فى السابق، حيث وجدت أنه من غير اللائق أن تنعقد فى أحد معاقل الشرطة، خصوصا أن لها صلة بموضوع القضية، وبات مفهوما أن رئيس النقض الأسبق قال كلمته وأعلن تقريره حين لم تكن الشرطة فى الواجهة، لكن رئيس النقض الحالى أصدر حكمه حين صارت الشرطة فى الصدارة، وبطبيعة الحال فإن الفرق الحقيقى ليس بين القاضيين أو المكانين، لكنه فرق بين حالتين أو مرحلتين. فى الأول كانت الثورة على نظام مبارك وفى الثانية كانت نهاية الثورة وعودة نظام مبارك.
القاضيان الكبيران لهما احتراهما بكل تأكيد، لكن كلا منهما اتخذ موقفه فى ضوء ما توفر لديه من بيانات وإفادات. وربما كان الفرق أن رئيس النقض الأسبق كان على رأس لجنة لتقصى الحقائق ضمن عدد من الخبراء والباحثين الذين تحروا الأمر بأنفسهم، أما رئيس النقض الحالى فقد قدمت إليه «الحقائق» جاهزة وحكم بمقتضاها. ولك أن تتصور الفرق بين حقائق يتوصل إليها الباحثون بجهدهم الخاص فى أجواء مفتوحة، وأخرى تصوغها الأجهزة الأمنية فى أجواء معاكسة. الأولون لا مصلحة لهم فى تكييف الحقيقة. والآخرون لهم مصلحة مباشرة فى ذلك.
تقرير لجنة المستشار قورة ذكر صراحة أن الشرطة هى التى قامت بقتل المتظاهرين، وأن أوامر القتل صدرت من جهات أعلى، وفى ذلك المستوى «الأعلى» ليس هناك سوى وزير الداخلية ومساعديه ورئيس الجمهورية. وأورد التقرير عديدا من الشواهد والقرائن التى أوصلت اللجنة إلى هذه الخلاصة. وفى السياق تطرق إلى أمور عدة، مثل موقعة الجمل ومسألة فتح السجون وقصة اللواء محمد البطران الذى كان رئيسا لمباحث السجون وقتل لأنه رفض تنفيذ أوامر إطلاق المسجونين التى أصدرها وزير الداخلية آنذاك، حسب شهادة شقيقته، وهو ما دحض أسطورة ضلوع حماس وحزب الله فى العملية، إلى غير ذلك من «الحقائق» التى جرى مسخها وطمسها واستبدالها بأساطير جديدة أدت إلى تبرئة وزير الداخلية من أوامر القتل كما برأت ضباط الشرطة الذين اتهموا فى تلك الجرائم. وكان ذلك ضروريا لتبرئة مبارك بعد ذلك لكى يتلاقى الشخوص مع السياسات.وتطوى صفحة ٢٥ يناير لتصبح «غلطة» جرى تصحيحها بروايات وتقارير جديدة تقود إلى تبرئة الجناة الحقيقيين. المشكلة أن دماء الشهداء لا تجف وأن الذين فقدوا أبصارهم أو أصيبوا بالشلل الرباعى سيظلون شهودا على أن الثورة أجهضت حقا إلا أن شعلتها لاتزال حية ولم تنطفئ، لذلك سيظل السؤال الذى أبرزته جريدة الأخبار معلقا فى القضاء المصرى: من قتل المتظاهرين؟ ليس فقط لكى تشفى غليل أهالى الضحايا، ولكن أيضا لكى نعرف من أجهض الثورة.
المقال منشور في صحيفة الشروق بتاريخ السبت 4 مارس 2017.