في اجتماع التحرير لجريدة ما، طلب رئيس التحرير من صحفي، الكتابة عن أسرة فقيرة فكتب: كانت هناك أسرة فقيرة جداً جداً جداً، كان أبوهم شديد الفقر وكذلك أمهم، وكانت خادمتهم شديدة الفقر أيضاً، وسائقهم كان أشد فقراً من الجميع، وكان يشحذ قيمة البنزين من المارة في الشوارع !
القصة هزلية بالطبع ولكنها تجسد حال الإعلام في سرد القضايا والمشاكل الأهم للمواطن، لنكن موضوعيين وبهدوووء.. نحن لا نخدم القارئ ولا نكتبه بصدق، وهنا سبب الأزمة ومربط الفرس.
بداية، الإعلام في بلادي معلول كعربة، يساهم في جرها بعض خيول عجوز مختلفة التخصص متوحدة المنفعة، الكبيرة جداً، والتي لا تسمح لأصحاب الكفاءة بجرها إلى الصواب، وإذا كان الأمر كذلك فلا تسمح أنت بأن يجرك خيل وإن كان كبير.
ما آل إليه الإعلام من ترد بلغ ذروته في الفترة الحالية، وعرض أصحابه لقيل وقال "من كل من وما هب ودب"، بما يهدد المهنة وأهدافها العظيمة بالأساس، وهذه نتائج تثبتها الأرقام، وأقر بها شيوخ المهنة وشبابها في ندوة على جلستين منفصلتين، دعا إليها النادي الإعلامي الدنمركي تحت عنوان" الإعلام المصري إلى أين".
الأزمة تلخصها بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء التي كشفت تراجع توزيع الصحف الورقية الحكومية والخاصة والحزبية، بنسبة 14.4%، من 655 مليون نسخة عام 2014 إلى 560.7 مليون نسخة عام 2015.
ومن أسباب التراجع، وكما أشار متخصصون أثناء الندوة، انتشار إعلام التعبئة وإقصاء الكفاءات، وغياب الحلول الحقيقية لمشاكل المهنية في الإعلام الحكومي، وغيرها من مشاكل اقتصادية، فيما يمثل مسماراً أخيراً في نعش الإعلام المصري يخرجه من التنافسية العربية والدولية. ولم يعد إعلام المستقبل أو الإعلام الإلكتروني أفضل حالا بل يحكمه جذب "الترافيك" بأي وسيلة وانعكاسه على رداءة المحتوى.
جميع الأسباب أعلاه، أفرزت لنا الإعلامي "الكاذب".. شيء يشبه في صفاته "الحمل الكاذب".. فالبعض بحاجة لأن يحيا أكثر، كي يكذب أكثر، والكذب صناعة ، أنشأوا لأجلها كثيرا من البرامج. ومؤخرا أخبرنا مذيع أحدها في تعليقه على نزوح مسيحيين من سيناء بعد تهديدات جماعات الإرهاب: أن الخونة يقومون بفبركة صور التقطت في العراق ويقولون أنها صور لترك الأقباط منازلهم في العريش. الطريف أن نفس المذيع سبق وعرض فيلماً لحرب "كارتون" على أنها مشاهد حقيقة بداخل سوريا، في مثال صارخ على ما يشهده الإعلام من فوضى هي الأخطر علينا وعلى الدولة.
المواطنون والشوارع يعلمون جيداً أن الذي يُداس ليس بالضرورة أن يكون رصيفاً، فأين الإعلام من مشاكل المواطن الحقيقية، ربما كان الاهتمام بآهات المتعبين، وحاجة الجائعين والمشردين عتبات لعبور الأقدام الطموحة إلى مبتغاها وأزيد ولكنكم تختارون الأسهل والأضمن.
قارئي..في حركة سريعة اذهب إلى محرك البحث جوجل واكتب بداخله "اللي مش عاجبه البلد يمشي"، كم عدد المذيعين الذين رددوا نفس الجملة؟ ظهر معي أربعة، كم وجدت أنت؟ على كل ربما لم يع من يطردونا من "عزبة باباهم" أن البقاء في الوطن ليس دليلاً على ارتفاع منسوب الوطنية بقدر ما قد يدل على ارتفاع منسوب الانتفاع –أحياناً،. هل يستطيع مذيع منهم الإفصاح عن مرتبه السنوي ؟..كم مليون؟ وهل يناله بالدولار أم بالجنيه؟ حتى نعلم مدى نضاله وتضحياته التي يقدمها لهذا الوطن. وبعد كل هذا نتساءل لماذا لا يشترينا ولا يشاهدنا المواطن، هل أنت كإعلام عبرت عنه اليوم أو أي يوم؟
عزيزي القارئ .. الدستور يكفل حقك في الحياة ولكن عليك أن تموت كل يوم ألف مرّة، مُتْ كي تكون جديراً بالوطن، أو ارحل، فلن يفرق.. "فيه منك كتير".
لن ألقي بالمسؤولية في" حجر" الإعلاميين فقط. نحن يا سادة في مناخ مسموم، فيه نقع بين خيارين كلاهما مر، فإما أن تنساق مع جوقة المغنين العازفين وتعزف على إيقاع من يتحكمون في زمام الأمور، وتترنم بتسبيحهم وحمدهم، وتحدث حينها ما شئت عن الامتيازات وعن العلاوات، وإما أن تنتصب بقلمك مدافعاً عن الحق فتصبح نغمة نشاز.. رجل الكلمة الصادقة التي لا تساوم، ولتكن على خندق المقاومة، وبالطبع ستتحول إلى الصحفي المدان ولن تثبت براءتك.." وأبقى قابلني إن فلحت".
وأخيراً.. يُفَوِّت البعض أن الإعلامي الحق، من يقصص رؤياه على إخوته وأعدائه معاً، من يصيغ الأحداث في فضاء السرد الرحب الموضوعي دون أن يتخلله الهوى، أو التبرع بتقديم مادة دسمة من التطبيل تصيب مشاهدها بالرغبة في القيء.
ولكن ما سبق لا يعطي حقاً للبعض، بمعايرة أم الصحف " الأهرام" بأن الدولة تصرف عليها، ومقاضاة صحيفة أخرى لوصف البرلمان بأنه "فيلم كارتون"..وهذه مصيبة لو تعلمون عظيمة. لا أحب السجال وربما وجب على من فعله من الصحف غسل دفاترهم وأقلامهم سبع مرات إحداهن بالتراب.. ولتعلم يا سيدي "الكارتون" بطل الفيلم الكارتوني، أن لا جدوى من الكتابة عنك وإليك، فأنت لن تقرأ ولكن إن وصلك كتابي هذا فلا بأس أن تقرأه.. رسالة واحدة خارج المنهج لن تقتلك: "رحم الله الشعب الزيمبابويي، كم صبر عليكم".. انتهى.