سنحت لى الفرصة خلال الأسابيع الماضية للقاء العديد من المستثمرين الأجانب الوافدين إلى مصر منذ مطلع العام سعيا وراء فهم ما يجرى على الساحة الاقتصادية واستطلاع الفرص المتاحة.
وإذا جاز التعميم فإن الغالبية منهم تنظر اليوم إلى الاقتصاد المصرى بشكل إيجابى فى أعقاب القرارات الأخيرة التى اتخذتها الحكومة، وتشير إلى الاستقرار النسبى لسعر الصرف، وبوادر عودة السياحة، وارتفاع مؤشر البورصة، وتحسن التصنيف الائتمانى باعتبارها مؤشرات على أن البلد يسير على المسار السليم.
وهذه النظرة لا تقتصر على مستثمرين ومحللين أجانب فقط، بل يشاركهم فيها قطاع من المجتمع المصرى يرى أن القرارات الأخيرة كانت قاسية ولكن ضرورية ولا بديل عنها، وأنها فتحت للبلد فرصا جديدة للاستثمار والتصدير والنمو.
المشكلة فيما تقدم أن الواقع الاقتصادى الذى يعيشه الناس ويعانون منه كل يوم مختلف تماما عن هذه الرؤية المتفائلة.
ولا أظن أن هناك حاجة لترديد مظاهر هذا الواقع الذى حول حياة كل أسرة إلى صراع بالنهار مع أسعار تكاد ترتفع بشكل يومى، وهم بالليل حول تدبير موارد ومتطلبات اليوم التالى.
وثلاثية التضخم والبطالة وتدهور الخدمات العامة لم تعد تمس الفقراء والمعدمين وحدهم بل تعانى منها جميع طبقات المجتمع وفئاته وإن كان بدرجات وأشكال متفاوتة.
أين الحقيقة إذن؟ هل الناس تبالغ فى الشكوى ولا تعترف بالتحسن الاقتصادى الذى يراه العالم الخارجى ويردده الإعلام الرسمى؟ أم أن المستثمرين والمحللين الاقتصاديين يعيشون على كوكب آخر ولا يدركون معاناة الشعب؟
الواقع أنه لا تناقض بين الرؤيتين لأن السياسة الاقتصادية التى انتهجتها الدولة فى الفترة الأخيرة استهدفت تحديدا ـــ بالاتفاق مع صندوق النقد الدولى ــ تصحيح الاختلالات الكبرى فى موازنة الدولة وفى سوق الصرف باعتبار أن ذلك سوف يؤدى إلى زيادة معدلات النمو والتشغيل والتصدير ويحقق للمجتمع كله فى نهاية الأمر التنمية الاقتصادية المنشودة.
وهذا التصور ليس اختراعا مصريا بل جرى تطبيقه بالفعل وبدرجات متفاوتة من النجاح والفشل فى العديد من البلدان النامية ومتوسطة الدخل خلال الثمانينيّات والتسعينيات من القرن الماضى. ولكنه فى الحالة المصرية الراهنة يصطدم بأربعة عوائق رئيسية:
الأول أنه حتى مع الاعتراف بضرورة اتخاذ إجراءات قاسية لتصحيح هيكل الموازنة العامة وميزان المدفوعات فإن الدولة أقدمت على تلك القرارات دون استعداد لتوابعها على الرغم من أنها معروفة وحتمية، مما ترتب عليه الأزمات المتلاحقة فى السكر واللبن والأسمدة والدواء وغيرها، والارتفاع الهائل فى الأسعار بسبب غياب آليات الرقابة والحد من الممارسات الاحتكارية.
الثانى أن الحكومة لا تزال مستمرة فى تطبيق سياسات متناقضة، على نحو ما يدل عليه حديثها عن تشجيع الاستثمار الخاص وإصدار قانون جديد له بينما تدخلها فى الشأن الاقتصادى وخاصة من خلال الأجهزة التابعة للقوات المسلحة يزداد يوما بعد يوم، ليس فقط فى حالات الضرورة التى تستدعى ذلك بل فى أنشطة اقتصادية عادية ليس فيها جوانب أمنية أو استراتيجية ملحة.
وهذه السياسات المتناقضة تجعل البلد يدفع ثمن القرارات الاقتصادية الصعبة ثم لا يستفيد من الفرص التى تتيحها، فنكون قد دفعنا الثمن مرتين.
أما الثالث فهو افتراض أن زيادة معدل النمو الاقتصادى سوف يترجم بالضرورة إلى تنمية اقتصادية شاملة وتحسن فى ظروف معيشة المواطنين، بينما تجارب العالم تدل على أن هذه النتيجة لا تتحقق حينما يتيح النظام السياسى والاجتماعى للبلد فرصة استئثار الأقلية بعوائد وثمار النمو بينما تظل الغالبية على حالها، تلتقط الفتات وتوفر عمالة رخيصة وطلبا على منتجات رديئة.
استفادة المجتمع كله من النمو الاقتصادى ــ حينما يجىء ــ لا تحدث تلقائيا بل تحتاج سياسة واعية وقرارا سياسيا وانحيازا لصالح الشعب.
وأخيرا فإن القيد الرابع هو استمرار الاعتقاد بإمكان تحقيق طفرة اقتصادية فى ظل مناخ سياسى منغلق ومقيد للحريات وغير مكترث بالدستور والقانون.
وهذا ليس اقحاما للشأن السياسى فى مناقشة اقتصادية على نحو ما يتصوره من يعتقدون بإمكان الفصل بين الأمرين، بل تأكيدا للارتباط الوثيق بينهما.
بغير انفراج سياسى وجدية فى احترام الدستور فإن الاستثمار سوف يأتى ولكنه لن يكون طويل المدى، عميق الأثر، ومرتبطا بطموح البلد فى التنمية، بل سوف يظل فى إطار الحد الأدنى اللازم لتحقيق أغراضه، ومستعدا للخروج عند أول بادرة توتر. وهذا لا يحقق تنمية اقتصادية عميقة ومستدامة.
ليست المشكلة أن يكون للاقتصاد وجهان أو أكثر بحسب موقع كل واحد ومصلحته، فهذا من طبائع الأمور. ولكن الخطير أن تتسع الفجوة بينهما إلى هذا الحد، وأن يجرى تجاهل الجانب الاجتماعى من المعادلة الاقتصادية إلى درجة لا يحتملها الناس، وغلق المجال السياسى وتقييد الحريات.
لقد جربنا فى السنوات السابقة على الثورة الاعتماد على النمو الاقتصادى المتسارع فى غياب سياسة اجتماعية مصاحبة له، ومناخ سياسى منفتح. فهل يلزم تكرار ذات الخطأ مرة أخرى؟
نقلا عن الشروق.