عنوان المقال ليس من عندي، بل من لافتة إعلانية منتشرة على الطرق والكباري الرئيسية ضمن حملة تهدف إلى شحذ همة الشعب وحثه على الاصطفاف وراء قيادته في مواجهة التحديات التي تواجه البلد.
وقد استوقفني هذا الشعار بالذات لما يحمله من معانٍ عميقة وهامة ومعبرة تعبيرا دقيقا عن المأزق الراهن للمسار الديمقراطي.
الرسالة واضحة، وهي أن خروج البلد من ضائقته الاقتصادية يتطلب من الشعب أن يعمل ويكد ويضحي، لأن العمل هو مفتاح الخلاص، وهذا في حد ذاته ليس محلا للخلاف.
ولكن ما يثير الدهشة أن يرتبط ذلك بضرورة ارجاء الخلاف والجدل والمعارضة كي لا تتعطل عملية البناء والانتاج والتنمية.
ووفقا لهذا التصور فإن الجدل والخلاف والتعدد في الآراء هدر للطاقات، وإثارة للفتن، وبحث عن مكاسب شخصية من جانب نخبة من السياسيين والمثقفين تتعمد عرقلة الجهود التي تبذلها الدولة وأبناؤها المخلصون من أجل تحقيق التنمية والأمن والاستقرار.
ولهذا فإن تحقيق التقدم المنشود لا يتطلب فقط بذل الجهد والعرق وإنما أيضا تنحية الخلافات جانبا والاصطفاف الكامل وراء الدولة وإرجاء كل ما من شأنه أن يثير الفتنة في المجتمع.
ولعل استقرار هذه الفكرة في الخطاب الرسمي للدولة والاعلام القريب منها هو ما ترتب عليه اعتبار الجدل السياسي والأنشطة الحزبية والنقابية والأهلية صخب لا داع له ويجدر تجاهله أو إسكاته كي تتمكن الدولة من تحقيق التقدم والبناء المنشودين.
وهذا في تقديري استند إلى الفكرة المحورية بأن التقدم والاستقرار يحتاجان عملا لا جدلا.
ولكن الحقيقة أن هذه فكرة خاطئة لأنها تؤدي إلى اسكات وتسفيه بل تخوين الأصوات والآراء المعارضة والمتحفظة على سياسات وقرارات الدولة باعتبارها معرقلة لمسيرة البناء والتقدم وربما تسعى لتحقيق مخططات أجنبية لهدم البلد.
والأخذ بهذه الفكرة يحرم المجتمع من حقه في الرقابة على تلك السياسات والقرارات، وانتقاد السلبي منها، وكشف ما قد تنطوي عليه من فساد أو هدر للموارد، وتقديم بدائل لها، والمشاركة في صنعها وتحمل مسؤوليتها، مع أن هذا هو جوهر الديمقراطية الحقيقية.
فالديمقراطية لا تختزل في مجرد وقوف المواطنين في الطوابير والتصويت والاستفتاء من وقت إلى أخر ثم اعتبار أن دورهم قد انتهي، بل جوهرها هو استمرار الرقابة البرلمانية والأهلية والإعلامية، واتاحة المعلومات التي تكفل تحقيق ذلك، والمشاركة المستمرة من المجتمع ومؤسساته في صنع القرار ومتابعة تنفيذه.
وما سبق لا يتعلق بالشأن السياسي فقط، بل بالقضايا الاقتصادية والاجتماعية الكبرى التي تواجه المجتمع. كلها تحتاج إلى اتاحة معلومات، واستعانة بالخبرات الوطنية، ومشاركة حزبية ونقابية، وحوار وجدل، وموافقة من البعض ومعارضة من أخرين، ليس لمجرد التلاسن وتشتيت الجهد، بل لضمان الوصول إلى أفضل البدائل، ومنحها قبولا شعبيا، واتاحة الرقابة عليها وتقييمها.
لقد انطلقت ثورة يناير في أعقاب انتخابات برلمانية بدت للناس خطوة نحو مزيد من الانفراد بالسلطة، والحكم الاخواني جاء من خلال انتخابات برلمانية ثم رئاسية ولكن ما لبث أن فقد شرعيته حينما انفرد بالسلطة وتجاهل المجتمع ومؤسساته بمجرد انقضاء العملية الانتخابية.
وإذا كان المجتمع المصري اليوم لا يبحث عن ثورة ثالثة بل عن استقرار وهدوء، فإن هذا لا يبرر انفراد الدولة وأجهزتها باتخاذ القرار وتجاهل التنوع والتعدد في الآراء والتوجهات في المجتمع لأن هذا التعدد والجدل المصاحب له مصدر للقوة والفاعلية والتجديد وليس مصدرا للضعف والهدم والعرقلة.