ليس عاديا أن يلجأ الاتحاد العام للغرف التجارية ومعه أكبر جمعيات المستثمرين فى مصر، وهم يمثلون معظم القطاع الخاص الوطنى، إلى نشر استغاثة برئيس الجمهورية من السياسة الاقتصادية للدولة على نحو ما جرى الاسبوع الماضى.
بل إن هذه الاستغاثة تعبر عن خلل فى إدارة الملف الاقتصادى، وكذلك عن غياب آليات التفاوض التى يعتمد عليها المجتمع لحسم الخلافات والتناقض بين المصالح داخله.
ويرجع أصل الموضوع إلى اضطراب سوق الصرف خلال العام الماضى، حيث قامت الشركات التى تستورد معدات أو مواد خام أو منتجات أخرى بالاقتراض من البنوك بالعملة الأجنبية لتلبية احتياجاتها ولكن لم تتمكن من السداد بذات العملة لا من السوق الرسمية لعدم توافرها، ولا من السوق السوداء بعدما صار شراؤها جريمة عقوبتها الحبس.
وكانت النتيجة أن البنوك طلبت منها تغطية هذه المديونية عن طريق ايداع المقابل بالجنيه المصرى ضمانا للسداد فى المستقبل. فلما انهار سعر الجنيه إلى النصف، باتت تلك الشركات مطالبة بسداد مديونيات تضاعفت قيمتها بالعملة الوطنية، وهو ما حقق لها خسائر غير مسبوقة مع نهاية السنة المالية.
إلى هنا كان يمكن اعتبار الموضوع خلافا تجاريا معتادا يقع فى كل أنحاء العالم كلما تغير سعر الصرف تغيرا كبيرا.
ولكن ما جعله يأخذ ابعادا أكثر حدة وخطورة فى الاسابيع الماضية هو تعلق الامر ليس بشركة أو اكثر بل بعشرات الشركات التى تمثل ركنا مهما فى الاقتصاد المصرى، وارتباط هذا الوضع الشائك بالتأخر فى توحيد سعر الصرف، والتهديد الواقع على مستقبل هذه الشركات والعاملين فيها، وكذلك على الحصيلة الضريبية المتوقعة هذا العام فى ضوء التراجع الحاد فى أرباح الشركات.
هذه الأزمة ليست الأولى التى تترتب على القرارات الاقتصادية الصادرة منذ شهرين، ولا أظن أن تكون الأخيرة لأن الموضوع لا يرتبط بقرار توحيد سعر الصرف فى حد ذاته، والذى لا زلت أعتبره قرارا سليما وضروريا وإن كان قد تأخر.
جوهر المشكلة أن الدولة اعتبرت أن مجرد اتخاذ قرارات تعويم الجنيه وزيادة أسعار الكهرباء والوقود والجمارك وفرض ضريبة القيمة المضافة هو سياستها الاقتصادية، بينما الأهم من هذه القرارات هو ما يلحقها من برامج وسياسات لزيادة الاستثمار والتشغيل، واستعادة السياحة، وتشجيع التصدير، وحماية محدودى الدخل من زيادة أسعار السلع والخدمات الضرورية والمترتبة والمتوقعة حتما نتيجة لهذه القرارات.
ولكن الواقع أن الحكومة، بعدما بدت لأسابيع قليلة جادة فى تصحيح المسار الاقتصادى والعمل بروح الفريق الواحد، إذا بها تتعثر مرة أخرى وتعود إلى التردد والتناقض فى القرارات وعدم وضوح الرؤية فيما تسعى لتحقيقه.
وقد ظهرت علامات ذلك فى تعاملها مع أزمة السكر، ثم الأسمدة، ثم الأدوية، ثم الفراخ المستوردة، ثم استمرار نقص المعروض من العملات الأجنبية برغم التعويم، ثم الانفلات فى الأسعار، ثم فى رجوع الصراع والتصريحات المتبادلة بين الوزارات والهيئات العامة، وأخيرا فى الأزمة الأخيرة التى استغاثت فيها الشركات برئيس الدولة من حكومته.
فى كل واحدة من تلك الأزمات لا يبدو أن الدولة كانت مستعدة أو حتى متوقعة لنتائج حتمية كان ينبغى الاستعداد لها.
جانب من المشكلة أن الدولة اعتبرت أن مجرد سكوت الناس على القرارات الأخيرة وعدم اندلاع ثورة جديدة أو مظاهرات فى الشوارع دليل على نجاح سياستها الاقتصادية.
ولكن الواقع أن الأزمة قائمة والغضب يتزايد فى كل طبقات المجتمع من سوء ادارة الاقتصاد.
وإذا كان لدى جمعيات المستثمرين الموارد التى مكنتها من التعبير عن غضبها بإعلانات مدفوعة الأجر، فان هذا لا يعنى أن باقى فئات الشعب سعيدة وقابلة لهذا الوضع المنفلت والخطير، بل تنقصها القنوات والوسائل المشروعة التى تعبر بها عن مطالبها ومشاكلها.
وهذا يقودنى إلى قضية التعبير عن المطالب والمصالح فى المجتمع. فليس غريبا أن تتعدد المصالح وتتعارض، بل هذا هو الوضع الطبيعى.
مصالح العمال تختلف عن مصالح أصحاب العمل، ومطالب المستوردين لابد أن تتقاطع مع مطالب المنتجين والمصنعين، وأصحاب المعاشات الثابتة غير الشباب الباحث عن فرص جديدة للعمل، والشركات الكبرى فى عالم يختلف عما يعرفه أصحاب المهن والحرف الصغيرة.
والدول لا تتقدم وتحقق تنمية اقتصادية فى ظل افتراض توافق مثالى وخيالى، بل تتقدم وتنجح متى تمكنت من ادارة التعارض فى المصالح الطبقية والاجتماعية ادارة سليمة ومتوازنة وديمقراطية، بحيث تكون المجالس المحلية، والبرلمان، والاعلام، والجمعيات الأهلية، والنقابات العمالية، وجمعيات رجال الأعمال، كلها قوية ومستقلة ومعبرة بالفعل عن مصالح أعضائها، وقنوات تتيح إجراء التفاوض الجماعى والمستمر فى المجتمع.
أما فى ظل برلمان ضعيف، وفى غياب مجالس محلية منتخبة، وسيطرة أجهزة الدولة على الاعلام والنقابات والمجتمع المدنى، وتخوين كل من يعارض سياسات الحكومة، وقصر الحوار على من لديهم الحظوة لدى السلطة، فلن يبقى للناس سوى الاستغاثة برئيس الجمهورية أو البحث عن قنوات أخرى للاحتجاج.
نقلا عن الشروق.