بداية.. "قل أعوذ برب الفلق"، من شر من كَذِبَ ولفَّق، ومن شر من زوَّر القول ونافق. وعلى طريقة خطباء المساجد.. "ثم أما بعد". نعتز بفعل الرئيس السيسي أمس من إكرام فتاة "التروسيكل". تستعرض أفعاله الكاميرات فيتجاهلها وينشغل بفتح باب السيارة إكراماً لها جراء صبرها على فقر دهسها أعواماً.
لكن هل تعلم سيدي الرئيس، أن الحالة البائسة للفتاة، هي واقع تتضاءل مرارته أمام قصص كثيرة أصادفها يومياً بحكم مهنتي. أتَعْلم، صباح يوم ليس ببعيد، استوقفتني عجوز في قريتي الكائنة بضواحي محافظة الجيزة، تناشدني إبلاغ الصحافة عن سرقة أحدهم لدجاجة تربيها وتأكل من بيضها.حتماً بيض دجاجة العجوز والتي هي رأس مالها، لا يكفيها لاتقاء فداحة غلاء المعيشة، كما لن ينفع السارق البيض ولا الدجاجة في مواجهة كوارث الحياة، ولكن"النواية تسند الزير".. هكذا يأملون.صاحبة الدجاجة تنتظرك، فماذا عساك ستقدم لها سيدي الرئيس!
أتعلم، صورة فتاة "التروسيكل"التي أبكتنا جميعاً ليست جديدة، وهذه المرأة الحية الميتة مثلها ملايين، كشف عنهم تقرير للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، صدر في يوليو هذا العام، وقال إن 27.8% من السكان فى مصر فقراء ولا يستطيعون الوفاء باحتياجاتهم الأساسية من الغذاء وغيره، وإن 57% من سكان ريف الوجه القبلى فقراء مقابل 19.7% من ريف الوجه البحرى. وأوضح التقرير أن نسبة الفقراء فى مصر وصلت هذا العام إلى أعلى مستوياتها فى مصر منذ مطلع القرن الحادي والعشرين!
سيدي الرئيس، حل مشاكل حالة فردية مقابل 25 مليوناً تقريبا وهم من يمثلون 27% من فقراء شعب مصر كما كشفت أجهزة الدولة، ليس بحل بقدر ما هو مجرد رسالة لكن أين الحلول العملية وآليات الدولة للقضاء على الفقر؟ أين المؤسسات المختصة بذلك؟ تعددت نداءات سيادتكم للشعب للوقوف بجوار الوطن، ولم يتأخر الشعب بداية من شراء شهادات استثمار قناة السويس، مروراً بدعمه صندوق "تحيا مصر" وانتهاءً بحملات كالتي أطلقها المجلس القومي للمرأة، تحت شعار "يوم عطاء المرأة المصرية"، بهدف دعوة جميع سيدات وفتيات مصر على اختلاف فئاتهنّ العمرية، من جميع المحافظات إلى التبرع لصالح صندوق تحيا مصر، وهي حملات تتكرر شهرياً!
فبدلاً من مساندة مؤسسات الدولة للفقراء، أصبحوا هم من يساندون الدولة "ويا ريت عاجب"! ألا يستحق هؤلاء حكومة كفؤة تحسن إدارة مشاكلنا، وتضرب المثل في التقشف؟ ألا يستحقون شفافية وإصلاحاً حقيقياً يتيح لهؤلاء الفقراء فرصاً متساوية لنفع أنفسهم والوطن؟. ألا ينبغي أن تكون المساندة متبادلة؟!
سيدي الرئيس، شخصي من أشد المنتقدين لأداء حكومتك، ولكني أكتب وأناشدك وكلي أمل في تلبية هذا النداء، انفض عنك غبار المنتفعين حولك، هم أساتذة في التذاكي وتصنع الحب، ولو أحبوك لنصحوك!
انهم يتنافسون في الرقص على آلام صاحبة الدجاجة وأقرانها. فهناك مغرد على السوشيال ميديا ترقص كلماته بين المتابعين، ومذيع وكاتب وصحفي، جميعهم يرقصون ويلعبون على عقول البشر..رقص أسوأ من "هز الوسط".. رقص بالكلمة واللحى والذمم! فلا تستمع لهؤلاء.
حقيقة، لطالما تمنى صحفيون وكتاب وإعلاميون الرقص بديلا لمهنتهم. وقد روى أنيس منصور عن توفيق الحكيم، قوله حين سمع أن ثرياً منح راقصة مبلغاً كبيراً من المال "ده احنا نرقص بدل ما نكتب أحسن". لم يعلم الحكيم أنه سيأتي يوم وتصبح سخريته حقيقة يتنازعها أرباب "اعلام السبوبة" برقص يرفع الضغط ويثير الضجر والكآبة والأزمات القلبية والدماغية والفشل الكلوي وصولاً إلى الوفاة!
يا سيدي الرئيس دعني أقص عليك أمرا: أخبرتني أمي عن جدتها عن الضيق والعجز والحاجة، وعن الذين لا أسماء لهم، عن الخيبات، وبدوري سأقص على أولادي قصص مدينتنا، فهل فعل معك أحد؟
دعني أخبرك سيدي الرئيس: نحن الكلام الذي لم يقل والوعود التي لم تُنفذ، نحن الأرقام في نشرات الأخبار، نحن الشعب الذي لا اسم له ولا عنوان.. ساكني العشش، السلعة البائرة على رفوف الحكومة، اللفظة الزائدة في دواوين الشعر، نحن الحرية التي تُبنى من أجلها السجون.. المرضي ترتكب في أجسادهم الأخطاء الطبية..
الذين سرقوا الحياة يا سيدي الرئيس، يحدثونني في منابرهم عن النار وعن العذاب، وأنا خُلقنا كي نخاف، ونحن نفعل!
نخاف من الكلام ومن الصمت، من الحرية ومن السجن، من الحياة ومن الموت الذي يأتينا قبل الحياة !
يا سيدي الرئيس، مع خالص التقدير لكرمك، أعلمت الآن من نحن ؟ نحن جميعنا فتاة "التروسيكل" وكلنا صاحبة الدجاجة، فهل من حلول؟!