تحليلات وآراء

لا ترتضي الخيبة، فِر من الطاعون، لا تحرق ملابس من أصابهم المرض من عائلتك، فقط ألقها على وجوه من تسببوا في البلاء، وعندما تنتقل لبيت جديد، ارم فتات الحلوى في الدروب الموصلة إليه، ليستدل عليك الفرح، أما الحزن فلا تقلق بشأنه، إنه كساعي البريد يملك خارطة للمدينة. إفعل ذلك أو عش "طرطوراً".. ولن تعيش.

 

السفينة التي يرحل عليها الموتى، لن نلوِّحُ لها على المرفأ مودعين، فلم يعد قائدها مسكينا يعمل في البحر، بل قرصاناً يأخذ كل عزيز غصبا، تجارته رابحة وصيده وفير، إما خَريِّج "توك توك" يعيش ميتا وإما قتيل عَبَّارة أو قطار أو "مزلقان" أو مُدرعة أو حادثة طريق..أينَ مَا يَمَّمتَ عينك فثمة قتيل ووَجعْ !

أمس إنفجَر خزان الغضب لديّ بمتابعة شهداء الوطن من جنودنا في سيناء، وفيديو شاب الإسكندرية مُشعل النار في نفسه، إنفجر واختلَط الإحتيَاطي بالأصلي والمزّور وبمدينتي والصبَاحْ!ففي كل خطوَة بتُ امشيها يَمرُ على ذهني قتيل!

وأنا مثلهم فقدت الأعز وفي نفس يوم رحيل شهداء الوطن فقدت إبنة اختي.

منذ عام باليوم والدقيقة، جادلت الموت وتوسلت اليه صارخة اقايضه لترك عزيزتي، فأخبرني: فات الأوان، لم يمهلني حتى لضمها مرة أخيرة، غادر وتركني حزينة حتى العظم، كان يعلم أنه لم يكن بحاجة لكل هذا الصدق كي يؤذيني، وكنت أعلم أن حديثي عن المقايضة مجرد مُسكنات.ولذا فأنا أعلم جيدا شعور أهالي الشهيد.

ما يحزنني أنني دوماً أتخيلهم عند إستقبال الخبر حفاة القدم عراة الرأس يجوبون الشوارع صارخين.

ولكن لماذا نموت نحن ويبقى من يسوقوننا إلى الموت بالإهمال وانعدام الكفاءة والمسؤولية، أتدركون أننا جميعاً في طابور ولايتهم في موت مؤجل، ننتظر التنفيذ في أي لحظة إما غرقاً وإما جوعاً وإما حرقاً  وإما حزناً.. نعم حزناً فالحزن أصبح حالة عامة وكأنه ضرورة مُلحة تجنح إليها قلوبنا، نحن ننتجُ من الدموع أكثر مما تنتج الصين من لِعب. على سبيل المثال أكثر الذين أعرفهم، لا ينامون قبل أن يتناولوا جُرعتهم اليومية من البُكاء..تعددت الأسباب والبكاء واحد، ومن لم يبكه حال الوطن، أو موت عزيز، سيبكيه الجوع ، أو الفقد بكافة أشكاله .. في النهاية جميعنا " في الهوا سوا"، لدينا ما يؤرقنا، ولديهم المبررات لدفننا دون تأنيب ضمير.

قل لي في هذا البلد المأزوم كيف سيتزوج شاب، بل كيف ستأمن على إبنتك وزوجتك وأمك أن تسير بمفردها في شوارع مجنونة، بل كيف ستتجرأ على إنجاب طفل، يُتاَجَر فيه وهو في بطن أمه، وإذا نجا من ضرب و"سَلْق" المربية له في الحضانة، سيغتصبه مدرسه وهو في الابتدائي، وإن نجا سيخطفه أحدهم لسلبه أعضائه، وإن نجا سيصاب بأمراض الدنيا والأخرة، وإن نجا-وهذا مستحيل- سيعاني بطالة وربما مات منتحراً، أو غرقا أو حرقا او قهراً فالموت الشيء الوحيد في بلادي الذي له خيارات كثيرة!

لست هنا لأحبطكم ، فقط أجسد الواقع وأبرزه أمام أعينكم، هنا لأسرد ما تعلمته على "يد  الموت"بما في ذلك رحمة أجدها وينحني لها قلبي.

قارئي، الحزن لمن يُحسن استقباله منبه جيد لإنسانيتنا يرشدها دوماً للشعور بالغير والتألم لآلامه وهذا جميل، ولكن ما يجب أن ننتبه له هو عدم التماهي فيه والتوحد معه والاستسلام له.

برقيتي أرسلها لمن يهمه ويهزه الأمر ممن هم عرضة لموت مفاجئ على أرصفة وطننا ..نستطيع صرع من تسببوا في هذا البؤس الذي نعيشه، بردهم عما يفعلون لا بالرحيل عن الوطن، لاتهاجر، لا تنتحر، لا تكتئب، لا تُشعل بنفسك النار لا تغلق عليك عقلك/منزلك، فليس هذا بزمن يقال فيه "من اغلق عليه بابه فهو آمن".

أتعرفون كيف انقرضت الديناصورات، ما أعرفه أنها لم تشاهد فيلم "نوح"، وأنها لم تحمل في الجارية، ما سردوه لنا على مقاعد الدراسة أنها لم تستطع التكيف مع الحياة، وربما لم تتكيف أيضا من إفرازات "الإدرينالين" لديها، ولم تجد في خطب قادتها عزاء ولو قالوها مراراً "الديناصورات أد الدنيا وهتفضل أد الدنيا" فماتت من الألم وانقرضت، بعد أن تركت لآخرين عظامها العظيمة ليتدبروا فيها كعظة.

لا ينسى أحد أن لنا من الحزن ما يكفينا، ونملك من الفرح مايبقينا على قيد الحياة، سبحانك ربي ما أعدلك وأنصفك، كم نحن أثرياء بحبك حد الابتلاء ورفع الدرجات، منعمون بعدالتك، عدالة نثق في أنها تضعُنا على طريق احقاق الحق مهما طال.

تعليقات الفيسبوك

التصميم والتطوير بواسطة WhaleSys