كما يحدث فى كل بلد يبرم اتفاقا مع صندوق النقد الدولى ويقبل بشروطه، تنتشر فى مصر هذه الأيام فكرة أن الصندوق يسعى إلى إفقار الشعب المصرى وتوريط البلد فى مصيدة الديون الأجنبية وأن الاتفاق معه هو ما جلب لنا ارتفاع الأسعار.
ولكن الواقع أن هذا الخطاب لا يعيبه إلا أنه غير صحيح، وأن الحقيقة البسيطة والمؤسفة معا أن سياستنا الاقتصادية ــ أو بالأحرى غيابها ــ هى ما دفع بنا إلى هذه الحال وفرض علينا اللجوء للاقتراض الأجنبى واتخاذ إجراءات تقشفية صارمة.
خلال العامين الماليين الماضيين، من ١ يوليو ٢٠١٤ حتى ٣٠ يونيو ٢٠١٦، ارتفع الدين العام الداخلى من ١.٤ تريليون جنيه إلى ما يتجاوز ٢.٤ تريليون، وارتفعت نسبته إلى الدخل القومى من ٨٠% إلى ٨٥%، وظلت البطالة فى حدود ١٣% دون تغيير يذكر
وارتفع الدين العام الخارجى من ٤٣ مليار دولار إلى ٥٣ مليار دولار، وانخفضت قيمة الجنيه المصرى فى السوق الموازية بنحو ٤٠%، وزاد التضخم بنحو ٦% إجمالا، بينما زادت أسعار المواد الغذائية وحدها خلال العامين بنسبة ٣٠%، ولم يحقق الاقتصاد القومى نموا إلا بمتوسط ٤٪.
وهذا كله دون الأخذ فى الاعتبار بالتدهور الحاد خلال الأشهر الثلاثة الماضية والذى ارتفعت فيه الأسعار ارتفاعا إضافيا عانى منه الناس قبل أن تظهر أرقامه الرسمية.
هذه هى أسباب إفقار الشعب المصرى، ولا أظن أن من بينها البنك الدولى ولا صندوق النقد ولا البنك الأوروبى ولا أى من الجهات التى نتصور أنها تتآمر علينا، بينما المؤامرة الوحيدة هى ما نفعله بأنفسنا، بدليل أن هذا التراجع الحاد فى الوضع الاقتصادى سابق على الاتفاق مع الصندوق والموافقة على شروطه بشهور طويلة.
لماذا أعيد التذكير بهذه الأرقام التى تضايق القراء وتبعث على التشاؤم؟ (والتشاؤم كما تعلمون جريمة). بالتأكيد ليس دفاعا عن الصندوق والبنك الدوليين، وهما على أى حال ليسا بحاجة لمن يدافع عنهما بما أننا الذين لجأنا إليهما طلبا للمساعدة العاجلة.
ولا نكاية فى الحكومة والمسئولين الذين يبذل بعضهم جهدا خارقا للخروج من الأزمة الراهنة، فالوضع الاقتصادى أخطر من أن يكون محلا للمزايدة السياسية ومعاناة الناس لا تحتمل المتاجرة بها.
غرضى من التذكير بأصل مشاكلنا بدلا من الاكتفاء بلوم مؤسسات التمويل الدولية هو لفت النظر إلى أن هناك سياسات اقتصادية معينة دفعت بنا إلى الأزمة الراهنة، وأن مجرد الاعتماد على السيولة المرتقبة من القروض الجديدة دون تغيير السياسات لن يخرجنا من الأزمة، بل قد يزيد حدتها بعد أن نكون قد استنفدنا كل الرصيد المتاح لنا خارجيا فى الاقتراض من الأسواق الدولية وداخليا فى الاعتماد على قدرة الناس على الاحتمال والصبر.
شخصيا لا أرى بديلا فى الأجل القصير من أن نمضى فى طريق الحصول على التمويل المتاح ونسد به حاجة صارت أكثر من ملحة لموارد دولارية بدونها تتوقف عجلة الإنتاج بالكامل.
ولكن يجب أن تكون الدولة على استعداد للمراجعة والعدول عن السياسات التى جعلتنا نصل إلى هذه الحال. وإذا كان الشعب المصرى سوف يلتزم خلال الأسابيع القليلة المقبلة بقروض إضافية تتراوح بين ١٥ و١٨ مليار دولار ــ ولنتذكر أن الشعب هو الذى يقترض وليس الحكومة لأنه الذى يسدد هذه الديون مستقبلا وهو الذى يتحمل بالإجراءات المصاحبة لها ــ ألا يستحق من حكومته أن تراجع نفسها فى سياساتها السابقة؟
ألا ينبغى الاعتراف بأننا أضعنا عامين ثمينين فى مناقشة مزايا قانون الاستثمار الجديد دون اتخاذ ما يلزم من إجراءات لتشجيع المستثمرين المصريين والأجانب أو حتى الإنصات لمشاكلهم واحتياجاتهم الحقيقية ومحاولة حلها؟
وألا يكون مفيدا لو أعادت الدولة تقييم برنامجها بشأن المشروعات القومية العملاقة التى قد تكون مفيدة على المدى البعيد ولكنها تأتى حاليا على حساب الإهمال المستمر للخدمات العامة القائمة والبنية التحتية المطلوبة فى المناطق القديمة التى يقطنها المواطنون بالفعل؟
وألم يحن الوقت لإعادة التفكير فى سياسة الدولة ــ بشقيها المدنى والعسكرى ــ فى التدخل فى كل مجال اقتصادى وخدمى دون تحديد للهدف من ذلك ودون تقدير لآثاره؟
وإذا كانت العملة المصرية سوف تتعرض قريبا لتخفيض رسمى، وسوف ندفع ثمن ذلك ارتفاعا فى الأسعار وتقييدا على الاستيراد، ألا يجب أن نستفيد على الأقل من هذا التغير فتكون لدينا خطة واضحة لتحسين جودة المنتجات المصرية ومساعدتها على التصدير إلى أسواق صارت أكثر تنافسية؟
وهل يكفى الاعتماد على زيادة الإنفاق على برامج الضمان الاجتماعى من أجل توفير الحماية للفقراء ومحدودى الدخل خلال المرحلة القادمة، أم يلزم تطبيق سياسة اجتماعية شاملة تنظر إلى التعليم والصحة والتشغيل والخدمات العامة باعتبارها ركائز توفير الحماية لكل أفراد المجتمع؟
وإذا كان مطلوبا أن يتحمل الناس بأعباء مقبلة، ألا يكون منطقيا أن تكون الدولة أكثر شفافية ووضوحا فيما تدبره، وأن تتيح الفرصة لحوار مجتمعى حقيقى تعبر فيه مؤسسات المجتمع النقابى والمدنى والسياسى عن وجهات نظرها؟
وإذا كانت الدولة تتوقع من الشعب أن يساندها ويدعم سياستها التقشفية ويتحمل المزيد من المشقة، ألا يتطلب ذلك تغييرا جذريا فى المناخ السياسى الذى يقيد حرية الناس ويمنعهم من التعبير والاحتجاج وإبداء الرأى، ويحد من مشاركة الشباب فى صنع مستقبل بلدهم؟
ما نحن مقبلون عليه ليس بسيطا وتكلفته سوف تكون باهظة، ومن حق المجتمع الذى يدفع الثمن أن يطالب بوقفة صادقة مع السياسات الاقتصادية السابقة والعدول عما ثبت فشله والتقدم نحو مناخ سياسى واقتصادى مختلف لكى يكون هناك أمل حقيقى فى تجاوز الأزمة الراهنة.
المقال منشور على موقع بوابة الشروق