خلال الأسابيع القليلة الماضية تعرضت ثلاث سياسات حكومية هامة للتعثر أو الإلغاء على نحو يستدعى التوقف والتفكير فيما يكمن وراء هذا الاضطراب فى الأداء الحكومى، خاصة أنها سياسات تمس النشاط الاقتصادى والاستثمارى الذى يمر بمرحلة حرجة ولا يتحمل مزيدا من الغموض.
السياسة الأولى والأهم قرار قصر استيراد القمح على الشحنات الخالية تماما من فطر «الإرجوت»، وقد تم العدول عنها الأسبوع الماضى بعد امتناع الشركات العالمية عن المشاركة فى المناقصات الحكومية لتوريد القمح، وبعد حظر دخول الخضراوات المصرية إلى عدة أسواق خارجية، مما دفع الحكومة للإعلان عن السماح بدخول القمح الذى تقل فيه نسبة «الإرجوت» عن نصف فى الألف.
والسياسة الثانية الاعلان عن طرح رخص تشغيل الجيل الرابع من خدمات الهاتف المحمول والذى أعلنته وزارة الاتصالات، فلم يتقدم إليها أية من شركات المحمول الثلاث العاملة فى مصر، معلنة أن السعر المطلوب فيه مغالاة شديدة وأن مواصفاته الفنية ومساحة الترددات المعروضة لا تسمح بتقديم الخدمة على نحو فنى سليم، ما يعنى ضرورة قيام وزارة الاتصالات، بإعادة الطرح بشروط جديدة.
وأما السياسة الثالثة فهى ما أعلنته وزارة الكهرباء فى موضوع جذب الاستثمار فى مجال الطاقة المتجددة، إذ بعد شهور طويلة من الدراسات والمفاوضات مع أكثر من عشر شركات مصرية وأجنبية ومؤسسات تمويل دولية، أعلنت الوزارة أنها لن تقبل شرط التحكيم الدولى فى العقود، فلما أعلنت كل الشركات المشاركة عدم استعدادها للتعاقد دون النص على شرط التحكيم الدولى، عادت الوزارة وأعلنت استعدادها لبدء مرحلة جديدة من التفاوض على شروط جديدة يمكن أن تتضمن قبول التحكيم.
فى الوضع العادى كان يمكن اعتبار كل من هذه الحالات على انفراد ظروفا عاديا للتفاوض والشد والجذب بين وزارات وهيئات حكومية من جهة وشركات محلية ودولية من جهة أخرى.
ولكن ما يدعو للقلق هو أننا لسنا بصدد قرارات روتينية عادية بل سياسات رئيسية للدولة تتعلق كلها بقطاعات حيوية ــ الغذاء والاتصالات والطاقة ــ وأننا لسنا حيال عقود تجارية ذات شأن بسيط بل اتفاقات دولية قيمتها عدة مليارات من الدولارات.
كما أن تكرار الأمر خلال أسابيع قليلة ليس أمرا عاديا. يضاف إلى ما سبق أنه أيا كانت نتائج كل هذه التغيرات فإن وقعها على الساحتين المحلية والدولية شديد السلبية فيما يتعلق بمصداقية القرار الحكومى.
هناك من يميلون إلى اعتبار ما حدث فى الحالات الثلاث تعبيرا عن الضغوط التى تتعرض لها الدولة من جانب الشركات متعددة الجنسيات، ويرون فى تراجع الحكومة هزيمة لا ينبغى السكوت عليها، بينما آخرون يرجعون ما حدث إلى التعارض بين المصالح الخاصة والعامة داخل أجهزة الدولة، وبالطبع فإن أصحاب نظريات المؤمرات واثقون أن وراء كل هذا طابور خامس يفسد عمل الحكومة فى كل مجال ويشيع مناخا تشاؤميا لا يوجد ما يبرره.
شخصيا لا أدعى علما فنيا فى نوعية الترددات المتاحة لشركات المحمول ولا فى نسبة فطر «الإرجوت» المقبولة صحيا وبيئيا.
ولكن تعليقى هنا ليس على الجوانب الفنية فى أية من هذه السياسات الثلاث المتعثرة بل فيما يعبر عنه ذلك من اضطراب فى آليات اتخاذ القرار داخل الجهاز الحكومى، وهو جهاز سنحت لى فرصة العمل فى أروقته من مواقع مختلفة لأكثر من عشر سنوات.
ومن واقع هذه التجربة فإن تقديرى الشخصى أن القاسم المشترك بين الملفات الثلاثة التى أشرت إليها هو الحالة المتزايدة من الانفصال بين متخذى القرار على أعلى المستويات من جهة وبين الأجهزة الفنية بالدولة والخبرات المتاحة فى القطاعين الخاص والأهلى من جهة أخرى.
المعتاد فى التعليق على الجهاز الإدارى للدولة هو التركيز فقط على مساوئه التى يعلمها الجميع: كثرة العاملين، وضعف الحافز، ومعه قلة الإنتاجية والكفاءة، والبيروقراطية.
هذا كله صحيح وإن كان بدرجات شديدة التفاوت بين مختلف الوزارات والمصالح والهيئات العامة ووفقا للمواضيع الحالى التطرق إليها.
ولكن من جهة أخرى فإن الجهاز الإدارى للدولة ليس مجرد مجموعة من الموظفين الخاملين والمعطلين للاقتصاد والإنتاج، بل هو أيضا تراث من الخبرات والأساليب والآليات التى كثيرا ما نراها معطلة وسقيمة ولكنها أحيانا ما تحمل فى طياتها ضمانات وخطوط دفاع لا يشعر بها المواطن العادى فى تعامله اليومى مع الموظفين الجالسين على مكاتب التعامل مع الجمهور.
ما يقلقنى هو أن يكون الخطاب السائد فى المجتمع حول ضعف وفساد الجهاز الإدارى المدنى بالدولة، وعدم إمكان الثقة به مطلقا وبآلياته، والاعتماد المتصاعد على تقارير الجهات الأمنية والرقابية فى اتخاذ القرارات ذات الطبيعة الفنية، بجانب العزوف عن الإنصات إلى وجهات نظر القطاع الخاص من جهة والقطاع الأهلى المغضوب عليه من جهة أخرى، إن يكون كل هذا مؤديا إلى عزلة متخذى القرار فى المستويات العليا عن الواقع الذى يجرى على الأرض، والمخزون المعرفى المتراكم داخل الجهاز الإدارى للدولة، والحلول والبدائل التى يقدر القطاعان الخاص والأهلى على تقديمها.
وكلما ضاقت الدائرة المحيطة بمتخذى القرار كانت الفرصة أكبر للإعلان عن سياسات وإصدار قرارات غير قابلة للتطبيق وغير مستجيبة لاحتياجات المجتمع والاقتصاد، فتكون النتيجة إما التمسك بها حفاظا على ماء الوجه أو تغييرها فى اللحظة الأخيرة.
رحم الله الشباب والعائلات الغارقين فى بحر الهجرة والحلم بمستقبل أفضل، وخالص التعازى لأهلهم، وأتمنى أن يصب الرأى العام غضبه على جشع السماسرة ويحاسب المسئولين عن هذه الكارثة ويرحم الضحايا وأهلهم من المزيد من اللوم والإهانة، ولعل تعزية رئيس الجمهورية بالأمس تضع نهاية لخطاب التشفى والكراهية الذى انتشر فى بعض وسائل الإعلام وجعل الفاجعة مضاعفة.