أثارت مسألة السماح ببناء الكنائس بحرية كثيرا من الجدل خلال مراحل تداول القانون الجديد في هذا الشأن، وما يرتبط به من إجراءات منها الموافقة الأمنية أو موافقة المحافظ، لكن هنا كقرية ربما لا تنطبق عليها كل هذه التعقيدات الأمنية والإجراءات البيروقراطية، أو المخاوف من إثارة حفيظة المسلمين، إذ تتمتع بقدر استثنائي من التسامح في منطقة شهدت توترات طائفية بين المسلمين والأقباط، هذه القرية تسمى نزلة حنّا بمركز الفشن جنوب بني سويف.
وفي القرية -التي يتوزع عدد سكانها مناصفة بين المسيحيين والمسلمين- يبني المسيحيون حاليا الدور الثاني من كنيستهم بعد توسعتها، بيد عمال وبنائين مسلمين وأقباط على السواء.
ورغم أن القرية لا تبعد سوى كيلومترات عن كفر درويش -الذي شهد العام الماضي أزمة طائفية ترتب عليها تهجير سكان مسيحيين وهو ما لقى اهتماما إعلاميا واسعا في الداخل والخارج- إلا أن "نزلة حنّا" تبدو كأنها تبعد مسافات ضوئية عن مثل هذه الأحداث فيما يخص العلاقة بين المسلمين والأقباط.
ويقول إمام المسجد الكبير بالقرية، الشيخ حنفي "هنا في قريتنا لا يمكن أن تفرق بين مسلم وقبطي، فالكل يتعامل بسواء ويتقاسمون سبل العيش والعمل، دون أي تفرقة على أساس ديني"، موضحا أنه في الأعياد يتبادل الطرفان الزيارات والتهنئة، وحتى في الأفراح والجنازات يدخل أقباط المساجد لحضور المراسم، وكذلك العكس.
أما محمد علي بائع الفلافل، فيشارك الشيخ حنفي الرأي، بالتأكيد على أن "الجميع هنا يتقاسمون كل شيء، حتى في رمضان، أقوم بإعداد الفلافل في الصباح لأخوتنا الأقباط، دون أن أتعرض لأي مضايقات من المسلمين أو اعتراض من أحد لأنه صائم بينما أبيع الطعمية".
على مدخل القرية لم نستطع التفريق بين الأهالي المسلمين والأقباط، الجميع يتشارك نفس طراز الملبس لا سيما النساء اللائي يرتدي غالبيتهن غطاء للرأس. الكشف عن الهوية الدينية ليس مثار غضب لأحد في القرية، فبعض المنازل على أبوابها صلبان والبعض الآخر عليه آيات قرآنية.
تقول القبطية أم عماد "في المناسبات والأعياد أتبادل مع جيراننا المسلمين المساعدة والتجهيزات اللازمة للعيد من صناعة الحلوى، كما نتبادل الأطعمة من حين لآخر".
يرجع الشيخ حنفي روح التسامح في القرية إلى الطبيعة العائلية، واتباع كل أفراد الأسرة أوامر ومواقف كبيرها، ويقول "في عائلتي على سبيل المثال، الصغار وأبناء العائلة يطيعون الكبير ويحترمون مواقفه ويرون معاملته للآخرين ولا سيما الأقباط".
ويتفق الشيخ حنفي مع الأب داود في أن التعايش منذ الصغر مع الطرف الآخر أحد الأسباب التي جعلت القرية تحتفظ بروحها، فالأطفال يتلقون التعليم معا، ويلعبون منذ صغرهم معا، كل هذا راكم في ذاكرتهم أن الآخر ليس عدوا، بل شريكا في الحياة والمجتمع.
* توسيع الكنيسة
تتولى إدارة كنيسة القرية إعادة بنائها بعد توسعتها بشراء بعض المنازل المجاورة، ومنهم منزلان لعائلتين مسلمين. ويقول الأب داود -أحد راعيين اثنين يعملان بالكنيسة- "نأمل أن تصبح مصر مثل قريتنا فيما يخص العلاقة بين المسلمين والأقباط، في الحقيقة سواء في قرية نزلة حنّا أو جعفر أو عزبة جرجس (المجاورتين لنزلة حنّا) فنحن نعتبر أن القرى الثلاثة قرية واحدة، حيث يسود ود ومحبة تصل لأكثر من الأخوة".
ويتابع الأب داود "حينما بدأنا العمل على بناء الكنيسة، كان أول شخص حمل أدوات البناء للعمل هو الأخ عصمت، أحد جيران الكنيسة من المسلمين".
من جانبه، يوضح الشيخ حنفي أنه خلال الأيام الأخيرة من رمضان، اشترك الطرفان في شراء بقرة لذبحها من أجل إعداد إفطار جماعي للمسلمين والأقباط على السواء بحضور الشيوخ والقساوسة، وتتشارك النساء في تجهيزه على مدخل البلد.
في موقع بناء الكنيسة، لا توجد أي حراسة أمنية أو مدنية بالمكان. وقال الأب داود "نحن هنا نشعر بالاطمئنان، ولسنا في خوف من وقوع أي أعمال عدائية بسبب بناء الكنيسة، هناك مسلمون يشاركون في أعمال البناء".
يتذكر الشيخ حنفي أيضا أنه أثناء بناء مسجد على مدخل القرية قبل 4 أعوام، قدّم قبطيان من القرية المساعدة ببعض الأموال، وحتى الطعام والمشروبات للقائمين على البناء.
ويعلّق الأمين محمد -في نقطة الشرطة بالقرية- على العلاقة بين المسلمين والأقباط، بالقول إن معظم المشكلات التي تعرض عليهم من القرية، هي مشكلات أسرية واختلافات ليس لها علاقة بالدين، لا سيما وأن أهالي القرية يعيشون مع بعض ويتقبلون بعضهم منذ بناء هذه القرية، لافتا إلى أنه في القرية يتشارك المسلم والقبطي في تأجير الأراضي وحتى شراء الماشية، بينما يقوم رجال الدين بتسوية المشكلات البسيطة بشكل ودي.
وفي العلاقات التجارية، يرتبط صبحي وديم -أحد التجار الأقباط الكبار في القرية- بكثير من الفلاحين من المسلمين والمسيحيين في تجارة المواشي، ومن بينهم عائلة أحمد جابر.
ويقول الأب داود إنه "خلال مراحل البناء الأولى للكنيسة، أقمنا الصلاة في أحد المنازل المجاورة، دون التعرض لمضايقات من الجانب الآخر أو مطالبات بوقف الصلاة".
من جانبه، يذكر الشيخ عمر -إمام مسجد في قرية جعفر المجاورة- أنه خلال بناء الكنيسة الخاصة بقريته العام الماضي، كان يجلس ومجموعة من المسلمين يتسامرون مع أقباط أمام موقع البناء، بينما كان هناك فردان من الأمن، وحينما وصل الضابط ورأى المشهد، نهر الفردين وطالبهما بالمغادرة إلى قسم الشرطة، قائلا لهم "لا شيء نخشاه هنا".
* أزمة المجالس العرفية
أصبحت السلطات تعتمد على المجالس العرفية بشكل كبير في الفترة الأخيرة، لتسوية المشكلات والتوترات الطائفية في الصعيد، كسبيل للحل الودي للأزمات دون أن يقع مزيد من التصعيد، إلا أن الشيخ حنفي والأب داود يريان أن هذه المجالس تعمق الأزمة وفجوة الخصومة بين الطرفين أكثر مما تحل.
يعتقد الشيخ حنفي أن غالبية المجالس العرفية لا ترضي الله ورسوله وتقرر حكما جائرا على أحد أطراف النزاع، موضحا أن "الجلسات العرفية كلها ضلال ويوجد فيها مجاملات كثيرة، والمحكمون ليس لديهم صلة بالدين".
وأضاف "ماذا يعني أن يأتي شخص يجبر أحد الأطراف على دفع مبالغ طائلة تتعدى 100 آلف جنيه في بعض الأحيان ويكون متعاطفا مع الطرف الأخر، لذا فإن غالبية هذه الجلسات لا تنتهي بخير".
أما الأب داود، فيرى أن حل هذه النزاعات يكمن في القانون، ويقول إن "الجلسة العرفية أمر غير قانوني طالما أن هناك قانونا ينبغي تطبيقه بدلا من تدخل أشخاص لا يعلمون شيئا ويحكمون حسب أهوائهم".
يوضح الأب أنه يعيش أزمة حاليا بسبب جلسة عرفية في قرية مجاورة أقرت على أحد الأشخاص دفع 30 ألف جنيه، إلا أنه لا يريد الدفع.
وفيما يتعلق بتهجير أسرة قبطية من كفر درويش المجاور، يتفق الشيخ والأب على أنه لا يمكن تهجير أسرة إلا في حالة واحدة وهي القتل، ويكون الأمر على الجانب المعتدي سواء من الطائفتين، وعلى الرغم من أنه غير شرعي إلا أنه حل لمنع تعمق الأزمة وانتشار الثأر، وينبغي دائما العودة للقانون.
وأضاف الأب أن هذه الجلسات مفيدة في المشكلات البسيطة أو الخصومات بين الجيران، إذ نقوم بالمصالحة بين الطرفين وإلزام أحدهما بتصليح الشيء إذا كان هناك ضرر دون فرض أي غرامات مالية.
* تبادل الخدمات الاجتماعية
وتعاني القرية العديد من المشكلات فيما يتعلق بالخدمات، فبالإضافة إلى الفقر الواضح، فلا تأتيها مياه الشرب إلا لأيام معدودة في الشهر. ويقول جرجس بباوي "المياه لا تأتي إلا 15 يوما في الشهر تقريبا، وتمر أيام متتالية دون أن تصل المياه إلينا، ويستلزم شراء موتور باهظ الثمن نظرا للضخ الضعيف".
أما الأب داود، فيرى أن المشكلة الأكبر في غياب الصرف الصحي الذي تسبب في ضعف البنية التحتية للمنازل، ويقول "المواطنون يقومون برفع أرضية المنازل لأكثر من متر فوق الأرض هربا من مياه الصرف الصحي، البعض لم يعد يقيم في الدور الأرضي من المنازل لنفس السبب".
تلحق بالمسجد الكبير في القرية، جمعية "بيت المال"، والتي تقدم خدمات اجتماعية وتعليمية للطلاب. ويقول الشيخ حنفي، الذي يتولى إدارتها إن "هذه الجمعية ساهمت في إدخال مياه الشرب للجزء الأكبر من أهالي القرية من الطائفتين على السواء، كما أن حضانة الجمعية كانت تقدم المواد التعليمية لمختلف الأبناء قبل أن تتوقف العام الماضي لصعوبة التمويل"، مؤكدا أن الجمعية لا تزال تقدم مساعدات للتلاميذ من ملابس الدراسة والكراسات والحقائب للجميع.
وفيما يتعلق بالخدمات الصحية، فهناك جمعية "رجاء" الملحقة بالكنيسة والتي توفر الخدمات الطبية البسيطة لأهالي القرية بأسعار رمزية، ويذهب إليها المسلمون والأقباط.
* السياسة والتوترات في الصعيد
حذّر الأب داود من خطورة القنوات الدينية من الجانبين، في بث أفكار التطرف والكره ضد الآخر والتي باتت تجذب العديد من الشباب.
لدى الشيخ عمر سبب آخر يثير توترات بسيطة حتى الآن، وهو السياسة. ويقول إن "السياسة لعبت دورا في ظهور بعض المشكلات الطفيفة بين الشباب من الطرفين في قرانا الثلاث، اختلاف التأييد للرئيس الأسبق محمد مرسي والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي أثار بعض الاستياء بين الطرفين"، موضحا أن بعض حوادث حرق الكنائس في الصعيد لا سيما محافظة المنيا كانت نتيجة اختلاف سياسي حول مرسي والسيسي.
وأرجع الشيخ عمر بعض هذه التوترات السطحية إلى غياب التوعية في المساجد والكنائس، وعدم تقديم دروس مكثفة في هذه الفترة الحرجة لتعليم الأجيال الجديدة حب الآخر وأهمية الترابط.
يتذكر الشيخ حنفي، من جانبه، مشادة وقعت العام الماضي بين مواطن قبطي كان يشغّل أغنية موالية للنظام الحالي بصوت مرتفع، الأمر الذي أثار حفيظة جاره المسلم، غير أن رجال دين مسلمين في القرية تحدثوا مع الأب داود، واتفق الجميع على المطالبة بعدم تشغيل مثل هذه الأغاني كي لا تفسد السياسة ما أصلحته المحبة والتسامح.
تعليقات الفيسبوك