في مدينتنا رائحة تزكم الأنوف، والحق أن حاسة الشم يمكنها أن تخطيء كل الروائح إلا رائحة التابوهات وما تخلفه من فوضى قاتمة، حتى الشمس لا يمكنها محو ظلامها الذي فيه نعيش، لمَ يفسده الفهم الخاطيء وما يكرسه من أفكار تحولت مع الوقت، إلى مقدسات تعلو قامة-أحياناً عن جوهر الدين .
ناقشت في الجزء الأول من هذا المقال، مفهوم الدين وتفرعه إلى: عبادات والتي هي طقوس كالصلاة، وغيبيات كجنة ونار، ومعاملات، داعية الى عدم الاكتفاء بطقوس الدين في أمورنا عامة وفي الزواج خاصة، وقلت صراحة" لا تتزوج من تصلي الفجر"، في اشارة لرفض الأخذ بالطقوس فقط، والسؤال اذا كنا لا نكتفي بطقوس الدين للحكم على الأشياء والأخذ بها، فهل يمكننا الإكتفاء بالمعاملات فقط والتغاضي عن شقي الدين الآخرين من طقوس و إيمان بغيب؟أيضاً أي منهم يسبق غيره في الأولوية ؟
انظر معي ..اهتم الاسلام بطقوس الدين وعلى رأسها الصلاة، لدرجة أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد،كذلك وجَّه عناية فائقة للمعاملات والجانب الروحي منها وأعطاها مساحة رحبة من رقعة تعاليمه، ففي الفقه الاسلامي من مجموعهلا تأخذ العبادات إلا الثلث تقريبا، والباقي يتعلق بالمعاملات من أحوال شخصية ومعاملات وجنايات وعقوبات وغيرها،واذا تأملنا العبادات الكبيرة نفسها، سنجدها تعود آخراً بالنفع على الغير لا فاعلها، فالصلاة مثلا هي بابينتهي منه الانسان عن إيذاء غيره "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"،والصوم تربية لمشاعر الانسان للشعور بغيره فيسعى الى مواساته، ولذا سماه النبي "ص" شهر الصبر والمواساة.
يتضح مما سبق أهمية الاخذ بفرعي الدين طقوس ومعاملات، وساستثني الغيبيات، فلا مجال لانكارها فعليها يتوقف إيمان المرء، ولكن من أولا ومن ثانياً طقوس الدين أم المعاملات؟
بموجب القاعدة الفقهية "دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة" فإن الأهم أن يكف الانسان ضرره عن غيره قبل منفعة يجلبها على نفسه ولو كانت صلاة أو حج أو الطقوس الدينية كلها، نجد أحياناً رجال أعمال يجمعون ثرواتهم من دماء البسطاء، وفي نفس الوقت يحجون ويعتمرون سنويا، بينما يبحثون عن أي فتوى شاذة تجيز عدم دفع زكاة أموالهم، لا سيما في قطاع الأراضي والأسهم وسواها، فضلا عن تبريرهم جمع الأموال بطرق لا تمت إلى أوامر الدين الصريحة بصلة.
لعل السبب في تفاقم الفهم "القاصر" المختصر للدين في طقوس تتعلق بالمظهر، أن الطقوس الدينية عند البعض وجاهة، فالزكاة من الممكن أن تصبح أداة سيادة وعلو شأن لحقير، والصلاة من الممكن أن تصبح مظهرا أنيقا لمحتال، والحج من الممكن أن يصبح عباءة اجتماعية مرموقة لوضيع !. وهي طعم بارع في خداع الغالبية، كيفإذن تكون الطقوس الدينية وحدها معيارا للتدين الحقيقي ومن الممكن أن يخلع الإنسان دينه على عتبة المسجد، ثم ينتعل حذاءه ويخرج للدنيا مسعوراً يأكل مال هذا وينهش عرض ذاك.! لا يفوتك قارئيقول الرسول " ص" :"من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".
المظهري المكتفي بالشكل دون الجوهر كالثقب الأسود تماما, قادر على اجتذاب الكثير بجاذبية كلامه وحلو شكله، لكنه لا يجذب سوى نفايات الفضاء, والأشياء الصغيرة، ولن يهرب منه غير الضوء الصادق.. صاحب المظهر الكاذب حتما سيعيش إلى أن يرد إلى أرذل القولوان تشابهت أفعاله بالصالحين " شكلا" فأبو جهل كان يلبسُ ذات العباءة والعمامة التي كان يلبسها أبو بكر، ولحية أُميّة بن خلف كانت طويلة كلحية عبد الله بن مسعود.
أخيرا ..ما سبق ما هو الا اجتهاد لتوضيح مفهومي عن الدين وماذا يريده منا: العبادة بمفهومها الشامل، كل ما يحبه الله ويرضاه من اﻷقوال واﻷفعال الظاهرة والباطنة دون الاكتفاء بأحدهما على حساب الأخر.