كما كنا نمسك بالمجلات في صغرنا، ونضع أصابعنا الملوثة بالحلوى على الصور ونقول لأنفسنا: حين نكبر سأتزوج ذاك الفتى أو تلك الفتاة، منبهرين بجمال الألوان وبريق يحيط نجوم الفن ممن ترتسم ملامحهم على الأغلفة.. نكبر وتتلاشى فتنة الصور حتى ننسى شكلها، ونتذكر فقط ما زُرع بدواخلنا من تابوهات اجتماعية ترسم معايير اختيار الأزواج والزوجات.
اختيار شريك الحياة، ذاك القرار "القنبلة" حمراء وخضراء الأسلاك، تتردد معها حد التصبب عرقاً قبل اختيار أي شخص ستتزوج وأي فتيل ستنزع، ترتعش كثيرا، تبتهل إلى الله مرارا لأخذ القرار الأصح، فأحدهما سيحولك لأشلاء والآخر ستهدأ له روعك وتنقذ به مستقبلك، ومن ستنجبهم من "قرود" صغيرة فيما بعد.. هكذا يظن كلا الطرفين.
بعضنا سيتخذ من كلام أمه نبراسا يهتدي به في ظلمات ذاك العالم "قليل الرباية"، والبعض الآخر سيتخذ من قوله "ص": "فاظفر بذات الدين تربت يداك"، وقوله "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه" طريقاً لحياة هانئة تنعم بالمودة والرحمة. وبعضهم سيختار وفق أسباب أخرى، ربما المال وربما الحسب وربما الجمال وربما لصغر سن وقلة خبرة وإدراك، معهم يستطيع تربية الزوجة على يديه وفقا لما يحبه وما تربى عليه.
سأركز هنا على من كان معياره الدين في الزواج باعتباره ما زكاه النبي "ص"، والذي يحصره البعض في العبادات التي هي محض طقوس. الدين الإسلامي قوامه مثلث ذو أضلاع ثلاثة "اعتقادات غيبية، ومعاملات والتي هي أخلاق، عبادات وطقوس كالصلاة". فلا تلب نداء زواج من يمارس الطقوس، لأنها بين العبد وربه "ولا تزر وازرة وزر أخرى"، ولا نداء من يتحدث في الغيبيات لأن الإيمان بها ركن من أركان الاسلام، ولا مجال لإنكارها كما أن محلها القلب، بل لب نداء من يتعامل بأخلاقيات "الدين المعاملة". يعضد ذلك حديث آخر للنبي "يخاطب فيه صحابته قائلا: "أتدرون من المفلس؟" قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، فقال: "إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا و ضرب هذا فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار".
قبل أن يلتحم الناس برباط مقدس يحمل في طياته من المخاطر مثلما يحمل من الرحمة، أليس من السطحية الاهتمام بما إذا كانت العروس تصلي الفجر حاضراً أم لا، دون تحري معاملتها لجيرانها وبرها بوالديها مثلا؟ أليس من الظلم للنفس الحرص على ما سيقدمه العريس من إمكانات مادية، أو حفظه لسورة مريم والنساء، دون التأكد أولا من احترامه للنساء حقيقة لا مجرد آيات يحشو بها صدره، أو يغرق بها صفحته على فيس بوك" فيكون كالحمار الذي يحمل أسفارا؟.
ربما نجح المسلم في مجال العبادات من صلاة وصوم وزكاة ويُتقنها، ولكنه يَسْقُطُ في معاملة الخلق، وهذا دليل على ضُعف في الإيمان، مما يُؤدي إلى الرسوب في امتحان يوم القيامة، يوم يَعِزُّ المرءُ أو يُهان. انظر معي لمعيار خليفة رسول الله في الاختيار.."طَلَب عُمَر الْفَارُوْق مِن رَجُل أَن يَأْتِيَه بِمَن يَعْرِفه حَق الْمَعْرِفَة لِيِضمنه فِي مَسْأَلَة، فَلَمَّا جَاءَه بِالْرَّجُل ابْتَدَرَه الْفَارُوْق سَائِلاً: أَنْت جَارُه الأَدْنَى؟ قَال: لا، قَال: إِذَن فَقَد رَافَقَتْه فِي سَفَر؟ قَال: لا؟ قَال: فَلَعَلَّك عَامَلْتَه بِالْدُّرهْم وَالْدِّيْنَار؟ قَال: لا، قَال: إِذَن فَلَعَلَّك أَبْصَرْتُه فِي الْمَسْجِد يَرْفَع رَأْسَه تَارَة وَيَخْفِضُه تَارَة؛ قَال: نَعَم، قَال:اذْهَب فَإِنَّك لا تَعْرِفُه" فجعل عمر -رضي الله عنه- المعاملة معياراً للالتزام بالدين، فالصلاة ليست مجرد حركات، ولكنها عبادة مثمرة للحق والصدق.
لأن الشيء بالشيء يذكر، فلا يمكن الحديث عن حسن اختيار شريك الحياة دون الحديث عما يتسبب فيه سوء هذا الاختيار وسطحيته. على حسب الإحصائيات، فإن معدل الطلاق في مصر حالة كل 6 دقائق، وفقًا لإحصائيات أجراها مركز معلومات دعم اتخاذ القرار الذي يتبع مجلس الوزراء، حيث ارتفعت نسبة حالات الطلاق من 7% إلى 40% في الخمسين عاما الأخيرة فقط. تَشَتُت يحمل ما يحمله من مشاكل نفسية وجسدية لثمرة سوء اختيار الشريك. أرجوك في خلفية المشهد لا يجب إغفال أننا شعب متدين بطبعه.!
دعونا نصنع لأنفسنا معروفا ونعقد هدنة سلام معها.. قف صوب المرآة، بلل إصبعك بدمك وامسك بورقة بيضاء، ارسم عليها خريطة، وحدد المكان الذي تحب أن تتواجد فيه غدا.. حتما ستختار المنتصف، لأن الهدف دائما منتصف الأشياء، والسعادة وحسن الاختيار حلم كبقية الأحلام بعيدة المنال، وبُعد المنال ذريعة اعتدنا أن نلتمس لأنفسنا بها عذر السير خلف القطيع المجتمعي وأفكاره المهترئة وما تربينا عليه، من أفكار أثبتت التجربة زيفها وخداعها الكامن في أفضلية من تصلي الفجر، في الوقت الذي لا ينبغي أن تكون الطقوس الدينية -رغم أهميتها- هي معايير اختيارنا لمن سنخوض معهم الحياة بحروبها المستنزفة للطاقات عادة، فضلا على أن المجتمع لا ينقصه أطفال معقدون ومرضى لن يستفيد منهم أحد سوى أطباء الأمراض النفسية والعصبية. لذلك أرجوك كن أعمق من ذاك ولا تكتفي في الزواج بمن تصلي/يصلي الفجر.