أُصَدِّق أن للحزن سطوة على العين، وأن حزناً فادحاً لمقتل شاب عشريني بصورة مفاجئة، كفيل بأن يكسر روحاً وعيناً..يُسكِنهما أودية التيه أعواماً، خاصة إذا كان القتل يسبقه تَجَبُر وتَطَرُف طارد الأقباط مراراً، كما حدث في "طِهنا الجبل" بمحافظة المنيا، من مقتل قبطي بيد مسلمين، خلافاً لتعاليم الإسلام الصريحة وروحه السمحة التي يُلخصها قوله تعالى "لكم دينكم ولي دين" وقول النبي (ص) "لا يزال العبد في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا" .
العين تنطق قبل الفم أحياناً، وما قالته نظرات "كيرولس" الأخ الأكبر لقتيل الفتنة، يستعصي على الأقلام تدوينه. يخبرك شرود نظراته قصة قرية نائية، تنام مع الغروب وتصحو على أول خيط للصبح يطرق أبوابها، يوقظ الجميع لعمل شاق أعالي الجبال لاستخلاص الطوب الجيري الأبيض، بعد هجرة الغالبية إلى أوروبا ما جعل المنيا تشتهر بكونها محافظة طاردة لشبابها.
تجول بنا نظراته أرجاء عزاء لم يحضره من المسلمين سوى بضعة ممن تربطهم بالأقباط علاقة جيدة. يشكو من ذلك قس القرية، ويعضد روايته بعض الحضور مدللين على كراهية المسلمين لهم. في "أرض الفتنة"، يحمل الجميع -مسلم ومسيحي- الصفات التي يوصم بها الفقر أصحابه، منازل بسيطة وطرقاً مهدمة يتناثر فيها الدجاج والأطفال. ينفصل الحاكم عن المحكوم حراسة وقانوناً، فلا يُرى شرطي يضبط أمناً ولا عمدة يفض "خناقة". فعلياً لا يرى أحدهما الآخر إلا من خلال شاشات التلفزيون، وقاعات المحاكم وقت حصول الجناة على براءة بعد تشييع التهمة في جرائم الفتنة على كثيرين ليتفرق دم القتيل بينهم - السيناريو المعروف سلفاً لإضاعة حقوق من أهدرت دماؤهم.
ربما يكشف ما سبق حقيقة الوضع الاقتصادي والاجتماعي لقرية تجسد على صغرها ما يحدث بمصر، وعليه.. دعني أسألك قارئي هل نحن بخير؟. هل ما زلنا نرى أن ما نمر به هو مخطط أمريكي صهيوني قطري حلزوني لزعزعة أمن البلاد، أم يجب أن نخترع عدواً آخر دون مواجهة الحقيقة، وأخذ الإجراءات القانونية الرادعة لتفادي تكرار "وجع القلب".
وسط تجاهل إعلامي لمشكلة الأقباط في المنيا، تأتيني "شخصياً"موجة من احتقار للذات، متزامنة مع ما يدفعونه من دم كضريبة للتطرف والجهل عن أهل مصر قرابة نصف قرن مضى.
الحقيقة العارية تَطَوَّع الكثيرون لستر عُريها، فرمى الشيوخ عباءاتهم لسترها بمجالس عرفية لا تُسمن ولا تغني من جوع، ورمى المثقفون الورق لسترها. قارئي أ تدري أن المثقف في بلدنا ينفصل عن هموم الإنسان البسيط، فمن أغرته المؤتمرات والانتدابات والتسكع على أرصفة مدن الضباب، ومدن المتاحف ومدن الأوبرا لن يشعر بغصة الفقير والعاطل والقبطي وساكني القري والباحثين عما يسُد الرمق في المزابل.
لن ننسى المتدينون المتطوعون لتوزيع الجنة والنار على العباد بموجب توكيل رسمي من رب الجنة والنار وفقا لما يعتقدونه، يصفون هذا بالكفر ويُقَلِّبوُن عليه العوام، فأصبح مألوفاً لدينا مشهد لجماعة انتهوا توا من صلاة الجمعة، يتقربون أكثر إلى الله وفقا لفهم مغلوط للدين، بشن هجوم على بيت قبطي، بمقتضى إشاعة تحويل منزله إلى كنيسة، كما حدث ببني سويف يوم الجمعة الماضي، دون إعمال الحكومة لقانون يردع كل من تُسوِل له نفسه ويتعامل مع دماء البعض كما لو كانت دماء "فرخة". يبدو أن ذلك الرجل الذي قال "إذا رأيت رجلاً كث اللحية، ففر منه فرارك من الطاعون" صدق، الطاعون انتشر، والعالم ازداد بشاعة وكَثُرَ المطبِّلون بعقل ومن غير عقل.
وأخيراً ربما لن يسمع صوتي في هذا الصخب والضجيج أحد، وربما هَمَّ البعض لقطع لساني "من لغاليغه" بموجب كوني مخطئة في قول كلمة الحق.. حقيقة لا يهمني كل هذا الركام من خيبات الأمل، لكن يصعب عليَّ خذلان ما أظنه حقاً، ولو كنت أنت قارئي من وقعت بتلك المحنة، أياً كانت ديانتك، أفكارك، سيكون لي نفس الوقفة وسأكتب نفس الشهادة، ولسوف أفعل طالما كنت صاحب حق.