أشعر بأني شجرة.. فَقَدْتُ أوراقي، سندي وزادي، أخشى كل عابر يمر بي، أظنه الحَطَّاب الذي سيكتب الفصل الأخير من وجودي. مات والدي فتعرى ظهري لِسِياط النقد والنقض، ممن نصبوا أنفسهم أوصياء على كل من لحقت باسمها تاء التأنيث، خاصة إذا صارعتهم بميدان العمل، بموجب صك كونهم رجالا، كحكومة مستبدة لا تتورع عن إلصاق تهم بمعارضيها هم أبعد ما يكونون عنها، بموجب كونها "الراعي الرسمي" للوطنية.
آخذُ نفسا عميقا وأغمض عيني، أُفَكِرُ.. كم فتاة مثلي في هذا المجتمع العليل، معرضة لتلك السخافات، أعيد على مسامعي ما نقشه والدي بصدري من قوله تعالى "وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا ".. عندها أجد مخرجاً ويطمئن قلبي..! بما فعله رجل نبت من طين هذه الأرض كعود نبات قويم رفض أن يميل مع أي فكر أو تيار متطرف.
أتأمل جيداً ذكر الناس له بعد وفاته بأنه "رجل المسجد". مضى زمن الكرامات، ورحلت النبوءة مع الأنبياء، وبقى الناس شهداء الله في أرضه، وها هم يجمعون في شهادتهم لوالدي على أنه أحد "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله". يلخصون بلقبه هذا حديث رسول الله "إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَتَعَاهَدُ الْمَسْجِدَ فَاشْهَدُوا لَهُ بِالإِيمَانِ".
على تقواه لم يكن رجل دين فقط، أو صوفي ساح في ملكوت الله دون رعايته لأولاده ومصالحهم ومساندتهم وقت الحاجة.. حافظ على الوسطية التي ميزت اسم مصر على مدى تاريخها. أتذكر في بدايتي الصحافية، يوم أن أتى الشيطان في صورة ناصح أمين إلى والدي مستنكراً "لماذا تعمل ابنتك هو انتم فقرا ؟!!" وآخر قائلا " أتتركها تعمل مع الخباصين الكدابين ..الصحافة حرام يا شيخ ". ويوم انتقدت بعض "المشايخ" ممن هاجموا الثورة، ثار بعض أبناء قريتي عليَّ، وبدلا من قرع الحجة بالحجة والدليل بالدليل، على صفحات "فيس بوك " محل الواقعة، اختاروا الطريق الأنكى وكرروا شكواهم لوالدي عله يحبسني في البيت فأتوقف عن العمل، أو يضربني فانتهى عن نقد آلهتهم التي عكفوا عليها ساجدين.. هكذا ظنوا، وعلى عكس ظنهم تصرف أبي الشيخ المستنير، فاستمع مني وبدون تعقيب على موقفي قال لي جملة واحدة "قلمك بيتقري ..خليكي مع الحق ومتبصيش وراكي" سعدت بموقفه وإمعانا في مكافحة ذلك الوباء، طلبت من والدي عقد مناظرة ببيتنا بيني وبين هؤلاء، فرفض بحكمة وفضَّل إنهاء الأمر عند هذا الحد.
لم يتبرأ مني أبي، ولم يأمرني بترك عملي كصحافية استجابة لما كان يوسوس له به البعض، بل كان نعم العون والسند في توفير كل ما يلزمني من أموال لا أتحصل عليها في بداية عملي بهذا المجال. كنت مصدر فخر له، حد فتحه "مضيفة" منزلنا يوم حصولي على جائزة الصحافة العربية لاستقبال المهنئين من أهالي القرية وحكاياته مع أمي، عمن جاءه ليهنئه .. لازلت أرى ابتسامة عين يخفيها ولا أدري السبب.
على عكس إحصائيات المراكز البحثية في العنف الأسري، لم أر والدي يضرب والدتي ولو لمرة، بل كان نعم الُمَعلِّم والأب والزوج والحبيب، على لسانها تقول أمي" حفظني آية الكرسي وخواتيم البقرة وسورة الرحمن ويس، كنت أشتكى له من البعض فيقول لي.. سامحي علشان ربنا يرزقك باللي يسامحك ". وبعيني رأيت خدمة أبي لأمي في مرضها، ولتفضيلها شرب الشاي من يده دون غيره، صارت عادة يفعلها يومياً. يقول لها دوما إن لها نصف ثواب ما يفعله من خير. عمليا يطبق حديث الرسول "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي".
فضائل عدة أشعرت أهل القرية برهبة موته فاجتمعوا عن بكرة أبيهم للصلاة عليه بالمسجد، حد افتراش الشوارع واستيلاء الرجال على الطابق الثاني الخاص بالنساء، كان المشهد الأخير آسراً للناظرين، يليق بزاهد عاش مطمئن النفس، ساكن الفؤاد، يؤمن بأن الصبر لن يمضي بلا ثمرة ، ولن يكون الخير بلا مقابل، كذلك لن يمر الشر بلا رادع .. رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة..اللهم بلغه منا سلاما بقدر فعله للخير وصلابته في الدفاع عن حق ابنته في إثبات ذاتها. فضائله نبتت من أرض خير ونماء في بلد لو استقام على ما تشربه من أرضه لما وجد التطرف فيه مكانا.