إعداد : دينا عفيفي
خلال السنوات التي أعقبت اندلاع ثورات الربيع العربي، أصبح من المعتاد إلقاء اللوم على سذاجة الثوار أو عدم كفاءة الحكام الانتقاليين كسبب لانحراف الثورات عن مسارها. لكن القضية أكبر من ذلك بكثير وتتلخص في الانهيار المروع للمؤسسات، لأننا عندما نحاول الوقوف على ما حدث منذ مستهل الربيع العربي وحتى الآن نجد فشلا مؤسسيا على كل الأصعدة.
ويقول موقع فوكس (Vox) الإخباري الأمريكي، في مصر على سبيل المثال عادة ما يجري سرد القصة كالتالي: أولا أن الثوار الشجعان والمثاليين، وفي الوقت ذاته شديدي السذاجة ركزوا فقط على إسقاط حسني مبارك لكنهم لم يركزوا على تولي الحكم. لقد فشلوا في التخطيط أو في تنظيم أنفسهم سياسياً وألقوا بكل ثقلهم وراء الأمل والتغيير والفيس بوك بدلا من ممارسة السياسة على أرض الواقع.
وكما تروى القصة، فالفشل المفترض لليبراليين أتاح الفرصة لجماعة الإخوان المسلمين كي تشكل حكومة إسلامية متشددة، لكن الإخوان المسلمين فشلوا أيضا لمحاولتهم تحقيق أهداف تنم عن قصر النظر مما أدى إلى نفور المواطنين والنخبة على حد سواء. بالتالي تمكنت المؤسسة العسكرية من استغلال سذاجة الليبراليين وعدم كفاءة الإخوان المسلمين لتستولي على السلطة بنفسها مما أدى إلى خضوع مصر للحكم العسكري.
هذه القصة تبدو مختلفة تماما عن تلك التي كنا نحاول أن نقنع أنفسنا بها في 2011 عن الربيع العربي، والتي قيل فيها إن المتظاهرين الشجعان المستنيرين تصدوا للحكام المستبدين. غير أن القاسم المشترك بين كلا القصتين هو أنها تُرجع كل شيء إلى العيوب الشخصية أو نقاط القوى لدى أفراد بعينهم. لكن كلا القصتين ناقصتان، حيث إن فشل الأفراد لم يكن هو السبب وراء هذه العواقب الوخيمة لثورات الربيع العربي، كما أن البطولة الفردية لمتظاهري الربيع العربي لم تكن كافية لضمان نجاحها.
الحقيقة أن الثوار كانوا حقا شجعانا وأن المستبدين كانوا "أشرارا" لكن القصة الحقيقية للربيع العربي لم تكن تتعلق ببطولة أو بشر الأفراد، فالحقيقة أقل اثارة وأكثر أهمية لأنها تتعلق بمخاطر الديكتاتوريات الهشة ومؤسسات الدولة الضعيفة.
لقد اتضح أن التحول الديمقراطي لا يتعلق بمن تجري الإطاحة به أو من يحل محله، بل بما إذا كان من الممكن تغيير هذه الشبكة الهائلة من المؤسسات التي تقف وراء ذلك الشخص أو كيفية ذلك.
إذا لم تتمكن من إنجاح هذه المؤسسات -وعادة ما يكون هذا متعذرا- فهذا يعني أن الثورة محكوم عليها بالفشل. لا يهم كم مرة تسقط فيها مستبدا ولا يهم مدى نقاء وطيبة المتظاهرين فكل هذا لن يكون كافيا. هذا هو الدرس الحقيقي من ثورات الربيع العربي وهذا مهم، لأن القصة ليست شيقة أو عاطفية بالدرجة التي كنا ننظر بها لقصة الخير مقابل الشر التي نفضل سردها.
في مصر، بدأ حسني مبارك يعد للثورة قبل زمن طويل من وقوعها. خلال 30 عاما قضاها في السلطة كان يعمل على التأكد من عدم نمو أي حزب معارض أو أي مؤسسة مجتمع مدني للدرجة التي تمكنهم من التصدي له. كما عمل مبارك على التأكد من ضعف هذه المؤسسات لدرجة تحول دون دعمها للتحول للديمقراطية بعد سقوطه.
ملأ مبارك وزارة الداخلية بالموالين له سياسيا بدلا من الموظفين الحكوميين الأكفاء، مما أتاح للفساد والوحشية التسبب في تآكل الأمن العام. حوّل القضاء إلى دمية موالية للنظام الحاكم مما منحه أداة لمحاكمة المعارضين السياسيين وجعل القضاة يعتمدون على النظام، كما أن سيادة القانون أصبحت شديدة الضعف. لقد قوض الأحزاب الليبرالية وتهاون قليلا مع الإخوان المسلمين بالدرجة التي تسمح له بأن يدعي أمام العالم "إما أنا أو الإسلاميين".
كانت المؤسسة الوحيدة التي ازدادت قوة هي المؤسسة العسكرية، فقد اتسع نطاق دورها في السياسة في ظل حكم مبارك لدرجة فاقت ما سمح به سلفه أنور السادات، فقد استعان مبارك بمبدأ المحسوبية لشراء ولاء هذه المؤسسة مع ازدياد قوتها.
لكن مثل هذه الإجراءات لم تكن قادرة على حماية مبارك إلى الأبد. حتى قبل الثورة كانت هناك مؤشرات على أن نظامه يواجه أزمة. كان اعتزامه توريث الحكم لابنه جمال يثير غضب الجماهير ومن ضمن مظاهر الغضب احتجاجات في 2010 حرق خلالها المتظاهرون صورا لجمال. تزايدت حدة الاستياء الشعبي أيضا نتيجة ارتفاع تكلفة المواد الغذائية خاصة الخبز بسبب التضخم مما مثل ضغطا على الفقراء في مصر، وارتفع معدل البطالة كذلك لدرجة أن صندوق النقد الدولي حذر من أنها "قنبلة زمنية قد تنفجر في أي وقت"، وبالإضافة إلى ذلك تزايد الاستياء العام من وحشية الشرطة.
وعندما اندلعت موجة الاحتجاجات في يناير 2011، اتضح مدى هشاشة نظام مبارك وسرعان ما اكتسبت الثورة تأييدا شعبيا، ولم تتمكن وزارة الداخلية من استعادة النظام.
لكن الأهم من كل ذلك، أن مبارك فقد ولاء الجيش له، فبدلا من القضاء على المتظاهرين، سحب الجيش تأييده للنظام وحل محله زاعماً أن كل ذلك بشكل مؤقت.
لكن اتضح أن الجيش -وهو مؤسسة في حد ذاتها- أصبح يركز على الحفاظ على مصالحه أكثر من مصالح الدولة وبعد عام فقط من تولي محمد مرسي -المنتمي للإخوان- الرئاسة قام بانقلاب عسكري أطاح به وعين بدلا منه عبد الفتاح السيسي رئيسا.
أبلت حكومة مرسي -خلال فترة حكمها لمدة عامين بين نظامين عسكريين- بلاء حسنا في بعض الأشياء لكنها ارتكبت مقابل ذلك الكثير من الأخطاء. لكن بأي حال وبغض النظر عن الأداء كان موقفها ضعيفا نتيجة ضعف أو عدم كفاءة المؤسسات والمجتمع المدني. أبدى القضاء عداء واضحا تجاه حكومة مرسي وانسحبت الأجهزة الأمنية من الشوارع، بل أن مؤسسات الدولة التي تقدم خدمات الغاز والكهرباء لم تكن تقوم بدورها على ما يرام.
صحيح أن الكثير من إخفاقات مرسي كان هو السبب فيه،ا لكن حتى لو كان أداؤه أفضل في الحكم فإن خواء الدولة في مصر كان حتما سيضعف موقفه بل ربما كان يعني الحكم عليه بالفشل بأي حال. وهكذا وعندما بدأ مرسي يرتكب أخطاء، انهارت عملية التحول الديمقراطي في مصر، وشغل الجيش الفراغ الذي خلفته إخفاقات ما تبقى من مؤسسات الدولة.
إن الظروف التي عمل مبارك على تهيئتها لإطالة فترة حكمه -المؤسسة العسكرية بالغة القوة وضعف المعارضة وعدم امتلاكها أي خبرة في الحكم وفساد الأجهزة الأمنية والمجتمع المدني الذي تم تجريفه وعدم وجود أي مؤسسات ديمقراطية فعالة- ظلت كلها ملامح موجودة بعد سقوطه وقوضت الحكومات المتعاقبة تماما مثلما كانت من عوامل سقوط مبارك شخصيا.
عندما نرى هذا، يصبح من الواضح أن المشكلة الحقيقية لم تكن يوما مدى استيعاب أو عدم استيعاب المتظاهرين كأفراد للعمل السياسي القاعدي، وأن التحول الديمقراطي لا يعني مجرد عدم وجود حاكم مستبد بقدر ما هو وجود حكم ديمقراطي.
ويتطلب الحكم الديمقراطي عناصر أهم بكثير من مجرد وجود فرد يتبنى الديمقراطية على رأس الحكم، فهو يتطلب وجود مؤسسات ديمقراطية من أحزاب سياسية قادرة على الفوز في الانتخابات، وساسة قادرين على الحكم، ومؤسسات حكومية قادرة على تطبيق هذه الطريقة في الحكم، ومجتمع مدني قادر على تقديم الدعم والاستقرار لهذه المؤسسات.
لقد عمل مبارك على مدى سنوات طويلة من حكمه المستبد على جعل المؤسسات الأساسية ضعيفة أو غير موجودة أصلا في مصر. لكن عندما سقط نظامه اندهشنا جميعا من عدم قدرة مرسي خلال 12 شهرا قضاها في السلطة على جمع شتات هذه المؤسسات.
الدرس الذي يمكن تعلمه هنا هو أنه رغم أن الأنظمة المستبدة كثيرا ما تحب أن تصور نفسها على أنها الطريقة الوحيدة لضمان الاستقرار، فإنها في واقع الأمر السبب الأساسي في زعزعته، فهي تشتري لأنفسها استقرارا مؤقتا اليوم من خلال المراهنة بأمنها في المستقبل. إن المطالبة بإسقاط حاكم مستبد ما، أسهل كثيرا من ممارسة السياسة التي تبحث عن سبل ضمان الانتقال السلس للسلطة في حالة السقوط.
لكنها بأي حال فإن القصة يجدر أخذها عبرة، فدول الربيع العربي ليست الدول الوحيدة التي لها أنظمة حكم مستبدة هشة يمكن أن تسقط فجأة بشكل مروع، بل هي مشكلة سنواجهها مرة أخرى.
تعليقات الفيسبوك