أحذر من فتنة جديدة توقع بين الشعبين المصري والسعودي بسبب قضية الجزيرتين تيران وصنافير. صحيح أن حدود الفتنة وتجلياتها محصورة حتى الآن في نطاق مواقع التواصل الاجتماعي وبعض البرامج التليفزيونية، إلا أن الدعوة إلى «ضبط النفس» واجبة في كل الأحوال، في حين أن الدعوة إلى وأد الفتنة وسد منافذها تظل أوجب.
وربما أفادنا في هذا الصدد أن نلجأ إلى تحرير المشهد الذي أزعم أنه حافل بالمفارقات وربما التناقضات. ذلك أننا بصدد قضية اتفقت فيها حكومتا البلدين لكن التنازع والتجاذب إزاءها انتقل إلى بعض شرائح المجتمع في البلدين. ثم إن الغضب فيها لم يكن في أصله موجها ضد الحكومة أو الشعب في المملكة، ولكنه كان غضبا مصريا موجها نحو السلطة المصرية. وفى حين علت أغلبية الأصوات في مصر متبنية موقف تبعية الجزيرتين للسيادة المصرية، فإن الحكومة المصرية هي التي بذلت الجهد لإثبات ملكية السعودية لهما. ورفع من وتيرة الغضب أن الطرف المصري الذي يفترض تقليديا ووظيفيا أنه يتولى تأمين الحدود والحفاظ عليها. هو الذي تخلى عن الجزيرتين وقرر إلحاقهما بالسيادة السعودية. ثم ضاعف من الغضب أن الرأي العام المصري اكتشف أن الحكومة الإسرائيلية علمت بالموضوع وحددت موقفا إزاءه، قبل أن يعلم به المجتمع المصري ومؤسساته التمثيلية.
الشاهد أنه لم تكن هناك مشكلة ولا حساسية من أي نوع لا ضد الحكومة السعودية أو ضد الشعب السعودي، وان تفاعلاتها وأصداءها كانت مصرية خالصة. لذلك لم يكن هناك ما يبرر انتقاد الحكومة السعودية التي تحرت مصالحها، ولا انتقاد الشعب السعودي الذي لم يكن طرفا في الموضوع. من ثم أزعم أن توجيه سهام النقد أو الغمز في أي منهما يعد من قبيل الشطط غبر المبرر، فضلا عن أنه أخذ منحى لا يليق في أحيان كثيرة. لا أتحدث هنا عن الاتفاق أو الاختلاف في المواقف، لكنني أتحدث عن أدب الحوار والاحترام الذي ينبغي أن يتبادله أطرافه خلاله.
لدينا مشكلتان في هذا الصدد، الأولى أنه في ظل تطور تقنيات التواصل صارت منابر الرأي مفتوحة على مصارعها، بحيث أصبحت تتسع لمختلف درجات النزق والتجريح، جنبا إلى جنب مع الآراء الصائبة والرصينة. وهو مما يصعب ضبطه أو السيطرة عليه، الأمر الذي يفتح الباب لافتعال أزمات واحترار مرارات لغير سبب أو لأسباب تافهة. المشكلة الثانية أن المجتمعات العربية ضاقت فيها الصدور بحيث لم تعد تحتمل حوارا من أي نوع. وفى أحيان كثيرة يتطور الحوار ليصبح اشتباكا ومعركة حياة أو موت. إذ لم يعد طرفاها يتبادلان وجهات النظر ولكن صار كل منهما معنى إما بإقصاء الآخر أو إبادته. حتى إننا إذا ما انتقدنا الشطط في الحوار ودعونا إلى ترشيده، فإننا صرنا نصاب بالحرج ولا نكاد نجد ردا على من يسأل: هل هناك أصلا حوار رشيد أو غير رشيد في العالم العربي؟
لدينا مشكلة ثالثة عويصة سببها أزمة الديمقراطية في العالم العربي، خلاصتها أن بلادنا يحكمها أفراد لا مؤسسات. بالتالي فإن القرار المصيري سياسيا كان أم غير سياسي ينسب إلى رأس الدولة وليس إلى مؤسساتها. ولعلى لست بحاجة للتنويه إلى أن المؤسسات موجودة ووفيرة في العالم العربي لكنها مفصلة بحيث تصنف ضمن الديكور السياسي ولا علاقة لها بالمشاركة السياسية. يشهد بذلك أن تاريخنا المعاصر بات ينسب إلى الحكام، من مصر الناصرية إلى مصر مبارك والسيسى، فضلا عن أن بعض الدول العربية تنسب إلى العائلات الحاكمة فيها.
شخصنة السلطة أبقتنا في إطار زمن القبيلة الذي في ظله يذوب المجتمع في شيخها الذي يحكمها. بالتالي فإننا من الناحية العملية والسياسية لم ندخل بعد عصر الدولة الحديثة التي تقوم على تعدد المؤسسات والفصل بين السلطات. بالمناسبة أضيف هنا بين قوسين أن النصوص القرآنية التي تجاوزت ستة آلاف آية تستخدم في وصف إدارة المجتمع مصطلح «أولو الأمر» بصيغته الجماعية ولم تشر إلى مصطلح ولى الأمر في أي مرة.
بسبب هيمنة ثقافة القبلية فإن انتقاد ممارسات أي نظام حاكم أصبح يستنفر القبيلة التي تعد ذلك مساسا بكرامتها ونيلا من كبريائها و«ثوابتها»، في حين أنها ليست الطرف الأساسي الذي يوجه إليها النقد. وهو ما حدث في الموضوع الذي نحن بصدده حين أصاب التلاسن ممارسات الحكومة السعودية، فأدى ذلك إلى استنفار بعض الشباب السعودي الذين تبادلوا الغضب في الفضاء الإلكتروني مع نظرائهم من المصريين. وسمعت أن رذاذ ذلك التلاسن أصاب بعض المصريين العاملين في المملكة.
ثمة اعتبار أخير لا استطيع أن أتجاهله يتعلق بطبيعة المرحلة التي نمر بها. إذ سبق أن نوهت إلى أن مراحل الضعف بأجوائها غير الصحية والملوثة تستخرج من الناس أسوأ ما فيهم. أما مراحل العافية والثقة فهي تستخرج من الناس عادة أفضل ما فيهم. ولأن عالمنا العربي يعيش في أجواء المرحلة الأولى فإنه صار مهيأ أكبر للاشتباك والتلاسن والاستسلام للفتنة، الأمر الذي يستلزم التنبيه والتحذير من الانجرار في ذلك المسار. الذي يفسد ما بين المصريين والسعوديين من مودة واحترام. وهى رسالة موجهة إلى الإعلاميين والمدونين بالدرجة الأولى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلا عن بوابة الشروق