لم تَدُم بشارة التوافق بين القوى السياسية على تشكيل الجمعية التأسيسية فى حلتها الجديدة، لم تَدُم إلا ساعات قليلة ثم انقشعت وتكرر مشهد انسحاب بعض الأطراف المشاركة فى اجتماع حزب الوفد 10/6 احتجاجا على نسب توزيع مقاعد الجمعية التأسيسية. بل إن البشارة نفسها جاءت محملة ومحاطة بعدة ألغام كانت تنذر بتبديدها والإبقاء على الدستور الجديد حبيس عنق الزجاجة، فإن هو تمكن لاحقا من اجتيازها فليس ثمة ما يضمن له الاستمرار والحفاظ على الاستقرار.
●●●
الصيغة التى أُعلن بها عن التوصل للتوافق على تشكيل الجمعية التأسيسية أى صيغة 50% للتيارات الدينية و50% للتيارات المدنية كانت فى حد ذاتها أبعد ما تكون عن روح التوافق لأنها كانت تعيد إنتاج الاستقطاب الحاصل فى المجتمع، والذى نلمسه جميعا هذا صحيح لكنه ما كان يجب أن ينعكس على الجمعية المناط بها وضع دستور لكل المصريين. المنطقى أن يتم توزيع نسب التمثيل داخل الجمعية التأسيسية بين المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، الرجال والنساء، المسلمين والمسيحيين، الطبقات والأجيال والمناطق الجغرافية المختلفة وفق معايير موضوعية بما يجعل الدستور بحق منتجا مجتمعيا معبرا عن مصالح مختلف مكونات الدولة المصرية. أما أن يتم التمثيل على قاعدة المحاصصة الأيديولوجية بين التيارين الدينى والمدنى فإنه أمر خاطئ وخطير. هو خاطئ لأنه يفترض أن القوى المدنية وكذلك القوى الإسلامية يمثل كل منها كتلة صماء تشترك فى داخلها فى كل شىء وتختلف مع الكتلة الأخرى فى كل شئ، وهذا لا أساس له من الواقع، ويكفى أن نقارن بين البرنامج الاقتصادى للقوى الليبرالية ونظيره للقوى الإسلامية وسنجد تشابها كبيرا فيما يخص حرية السوق وتشجيع المبادرة الفردية مقارنة بالبرنامج الاقتصادى للقوى اليسارية. كما أن هذا الأمر خطير لأنه يختزل المشهد كله فى الموقف من علاقة الدين بالدولة، ويسمح بالتوظيف السياسى للخلاف فى هذه القضية من أجل الهجوم على أنصار التيارات المدنية بدعوى أنها ضد الدين. وفى الحقيقة فإن السؤال الذى يقفز إلى الذهن مباشرة فور العلم بهذه المحاصصة هو التالى: كيف يستطيع أى مرشح للرئاسة أن يقدم نفسه رئيسا لكل المصريين بينما هو محسوب على هذا التيار أو ذاك؟
على أية حال كان هذا هو الاتفاق الذى أُعلن عنه، وعدا ملاحظات تتعلق باستبعاد مؤسسات وأحزاب بذاتها من عضوية الجمعية التأسيسية للمرة الثانية على التوالى كاستبعاد الاتحاد العام لكتاب مصر وحزب العدل أول حزب يخرج من رحم ثورة يناير بمؤسسين شبان، بدا أن هناك حالة من الارتياح التى سادت على جانبى التيارات الدينية والمدنية مع إشادة خاصة بموقف حزب البناء والتنمية الذى تنازل عن مقعديه «الإسلاميين» لصالح المقاعد «المدنية» حتى يمكن أن تكون المناصفة كاملة. وبدا مفهوما أن تستكمل الأحزاب الإسلامية والأحزاب المدنية حصتها بشخصيات عامة ونقابية ورجال قانون من الإسلاميين والمدنيين على التوالى. فى غمار هذه المحاصصة سقطت الدولة المصرية بأزهرها وكنيستها وأجهزتها الأمنية والعسكرية والتنفيذية، سقطت من حساب الجميع. لم يسأل أى من الفريقين نفسه ما هو موضع هذه الدولة ومكوناتها، حتى إذا ما أُعملت قاعدة المغالبة لا المشاركة التى انبعثت من انتخابات مجلسى الشعب والشورى، وجدنا عجبا. وجدنا أن جيش مصر يُرحل على نصيب القوى المدنية، فيكون السؤال لم التبرم إذن من حكم الجيش طالما أن الحكم العسكرى والحكم المدنى سواء؟ وجدنا أيضا أن الأزهر والكنيسة قوتان مدنيتان، فيكون السؤال لم إذن كل المماحكة والتحسس من مصطلح الدولة المدنية طالما أن هذه الدولة يمثلها الأزهر المؤسسة الدينية الأرفع والأقدم والمرجع الحق لكل مسلم ومسلمة؟. أُعملت قاعدة المحاصصة الأيديولوجية احتكاما إلى المغالبة لا المشاركة فوجدت الدولة المصرية ومؤسساتها نفسها زائدة عن الحاجة وقذف بها الإسلاميون فى مربع القوى المدنية، مع أن الأصل أنها تسمو فوق الجميع.
●●●
انفجر اللغم الأول فى وجه الجمعية التأسيسية حتى قبل أن يلتئم أعضاؤها، وانسحبت أحزاب المصرى الديمقراطى الاجتماعى والمصريين الأحرار والثورة مستمرة والكرامة ومجموع مقاعدها سبعة، وهذا من شأنه إحداث خلل جسيم فى التوازن الذى اختل أصلا بفعل الحسابات السياسية التى سبقت الإشارة إليها، ولا ننسى أن حزب الكرامة هو الحزب الذى يحمل فكره وتوجهه صاحب ثالث أكبر كتلة تصويتية فى الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، وإن لم يترشح باسمه. أما اللغم الثانى فهو المتعلق بنسبة التصويت داخل الجمعية التأسيسية وهى نسبة الثلثين أو 67% فى القراءة الأولى و57% فى القراءة الثانية. المشكلة الأساسية هى فى نسبة التصويت فى القراءة الثانية التى لا يوجد لها أى منطق، التى هى من الضعف بحيث لا يُقبل الاحتكام إليها لاعتماد دستور مصر الجديد. كان يمكن اشتراط نسبة الثلثين أيضا فى القراءة الثانية لإجبار القوى السياسية على تقديم التنازلات المتبادلة وتقريب وجهات نظرها، وذلك بدلا من أن تكون نتيجة التصويت محسومة فى الجولة الثانية لصالح التيارات الدينية التى تتمتع فعليا بحصة ضخمة من المقاعد (50 مقعدا) فلا تنقصها للحصول على نسبة 57% إلا سبعة مقاعد فقط تضمن اثنين منها يشغلهما حزب الوسط. كيف نظم الدستور الصغير فى تونس التصويت داخل المجلس التأسيسى؟ اشترط فى القراءة الأولى الحصول على أغلبية الثلثين أى حوالى 145 صوتا من أصل 217، وكرر اشتراط النسبة نفسها فى القراءة الثانية. فإذا علمنا أن حزب النهضة وهو الحزب الإسلامى الوحيد داخل المجلس لا يمثل إلا بـ41% من الأصوات كونه يحظى بـ89 مقعدا، فإن هذا يعنى أن عليه استمالة ما لا يقل عن 56 عضوا من الكتل الحزبية الأخرى سواء لتحقيق الأغلبية المطلوبة فى القراءة الأولى أو فى القراءة الثانية. بطبيعة الحال لابد من الإشارة إلى أن الدستور التونسى لن يُسَتفتى عليه شعبيا إلا لو فشل أعضاء المجلس التأسيسى فى التوافق على الدستور عبر القراءتين الأولى والثانية، أى أن 145 فردا كحد أدنى و217 فردا كحد أقصى يمكنهم أن ينوبوا عن مجموع الشعب التونسى فى اعتماد دستوره. كما تجب الإشارة إلى أنه حال عرض الدستور على الشعب التونسى تكفى الموافقة عليه بالأغلبية المطلقة أى 50% +1. لكن المقصود إيضاحه هو كيف تتشدد تونس فى اشتراط التوافق بين قواها السياسية مع وجود حزب بانفتاح حزب النهضة وكيف نتهاون نحن فى اشتراط هذا التوافق داخل الجمعية التأسيسية بينما الثقة منعدمة بين حزب الحرية والعدالة وباقى القوى السياسية؟
اللغم الثالث والأخير هو استباق حزبى الحرية والعدالة والنور اجتماع الجمعية التأسيسية بل وحتى تشكيلها بالإعلان عن اتفاقهما على تغيير نص المادة الثانية من دستور 1971 لتصبح «الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع»، بما يعنى أن أحكام الشريعة وليس فقط مبادئها المصدر الرئيسى للتشريع. يعلم الحزبان حساسية هذه القضية وخطورتها، وبين يدى مالايقل عن أربعة تصريحات للدكتور وحيد عبدالمجيد منسق أحزاب التحالف الديمقراطى يقول فى أحدها يوم 26 /12/2011 بجريدة الشروق ما نصه «الأبواب الأربعة الأولى من الدستور تم التوافق عليها بين جميع القوى السياسية، والخلاف الرئيسى حول الباب الخامس المتعلق بشكل نظام الحكم». ويضيف أن من مزايا هذا التصور أنه «يضع حدا للمعارك التى اشتعلت بين القوى السياسية حول الدولة المدنية والدينية». ومعنى قوله إن المادة الثانية من دستور 1971 تم الاتفاق على تثبيتها منعا «لاشتعال المعارك»، فما بال التيار الدينى اتخذ اليوم قرارا بإشعال المعارك؟.
●●●
سيظل من يؤرخون للثورة التونسية يذكرون كيف تسامى راشد الغنوشى على نقاط الخلاف فتمسك بأهداب الإسلام الذى هو دين كل الشعب تقريبا وأرجأ الخوض فى علاقة الدين بالتشريع لكونها موضع خلاف بين بنى وطنه. لقد جاء راشد الغنوشى إلى مصر زائرا قبل يومين، ومن المؤكد أنه حكى عن تجربته لمن التقاهم من القوى الدينية فليتهم سمعوا منه وياليتهم يقلدوه ففى هذا ما يقى الوطن شرورا كثيرة.
تعليقات الفيسبوك