كتب: محمد القرماني
قامت الأجهزة الأمنية ومحافظة القاهرة منذ أيام بحملة موسعة لإجلاء الباعة الجائلين من منطقة رمسيس ونقلهم لمنطقة أحمد حلمي استكمالا للجهود السابقة التي بدأتها أجهزة الدولة منذ سبعة أشهر تقريبا لإجلاء الباعة الجائلين من مناطق وسط البلد ونقلهم إلى موقف الترجمان، وهو القرار الذي لاقى في حينه ترحيبا وإشادة واسعة من جانب الكثير من المواطنين ووسائل الإعلام بعد أن احتل الباعة الأرصفة والشوارع وتسببوا في إحداث فوضى هائلة وحالة من العشوائية في المرور والسير كما تضرر منهم سكان وسط البلد وأصحاب المحال التجارية الذين جار عليهم الباعة.
إلا أنه بين الحين والآخر تتداول بعض الأخبار والتحقيقات الصحفية تصريحات للباعة وممثليهم بأنهم سوف يعودون لاحتلال أماكنهم السابقة في مناطق وسط البلد، بعد أن تضرروا من نقلهم لموقف الترجمان واصفين اياه بأنه مكان منعزل، وهو ما يدعونا للتساؤل عما إذا كان قرار إجلائهم من البداية صائبا أم لا؟
•••
يندرج الباعة الجائلون تحت مظلة الاقتصاد غير الرسمي والذي يقدر حجمه بنحو ٢٠٪ من الناتج القومي في مصر كما تقدر بعض الدراسات عدد الباعة الجائلين فى مصر بنحو ٦ ملايين. وبقدر ما يشكل هذا القطاع بشكل عام أو الباعة الجائلون بصورة محددة مشكلات اقتصادية تنتج عن عدم الخضوع للضرائب أو الرقابة من جانب الاجهزة المعنية على المنتجات التى يتم تداولها فى السوق الا انه يعد واقعا تشهده جميع دول العالم حيث يتواجد وبكثرة الباعة الجائلون فى معظم الدول وعلى الأخص الدول النامية المتمركزة فى أفريقيا جنوب الصحراء وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا. وينظر بعض الاقتصاديين للقطاع غير الرسمى نظرة ايجابية بسبب استيعابه للعمالة التى لا تستطيع الحصول على فرص توظيف فى القطاع الرسمى. وعلى الرغم من عدم وجود احصاءات دقيقة عن عدد الباعة الجائلين فى مصر أو خلفياتهم التعليمية والاجتماعية والاقتصادية الا أنه تلاحظ تزايد أعدادهم بشكل كبير خلال السنوات الماضية وتحديدا فى أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير وهو ما يدعونا للاعتراف بأن هذا النشاط الاقتصادى بات يساهم بقوة فى توفير فرص عمل تساعد فى الحد من الفقر فضلا عن خلق سوق للعديد من السلع بأسعار منخفضة يقبل عليها المواطنون من مختلف الشرائح الاجتماعية والاقتصادية فى ضوء تراجع القدرة الشرائية للمصريين.
•••
ينبغى فى البداية الاشارة إلى أن الحكومات حول العالم تتعامل مع العديد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية المعقدة والمركبة أو كما يطلق عليها أحيانا wicked problems ومن الصعب ايجاد حلول سريعة وجذرية لكل تلك المشكلات الا أنه من المتعارف عليه فى علم الاقتصاد والسياسات العامة أن أولى بل وأهم خطوات حل أى مشكلة هو التعريف الصحيح والدقيق لها problem definition ولا يتم ذلك الا بمشاركة أطراف متعددة تقدم للحكومة الأبعاد المختلفة للمشكلة وتداعياتها ومقترحات علاجها وتوازن الحكومة بين بدائل السياسات لاختيار الحل ذات التكلفة الاقتصادية والاجتماعية الأقل والجدوى الأعلى. وتخطئ بعض الحكومات عندما تتعامل مع عرض المشكلة باعتباره هو السبب وهو ما قد ينتج عنه تفاقم المشكلة أو ظهور مشكلات أخرى أشد تعقيدا وخطورة. وبالرجوع لمسألة الباعة الجائلين أتصور أن المشكلة الرئيسية لم تكن الفوضى والعشوائية التى سببوها فذلك كان نتيجة طبيعية لوجودهم أما المشكلة الرئيسية فكانت الظروف الاقتصادية وغياب العدالة الاجتماعية التى أدت إلى لجوء شباب كثير منهم أصحاب مؤهلات عليا إلى هذا النشاط الاقتصادى. أما الحكومة فقد انصب همها على التخلص من الباعة الجائلين واعادة الانضباط والمظهر الحضارى لقلب العاصمة وتجاهلت ما قد يسببه هذا القرار من اضرار اقتصادية بالغة لهؤلاء الباعة وما قد يترتب عليه من مشاكل اجتماعية وسياسية قد لا تظهر حاليا ولكنها قد تأخذ فى التطور يوما بعد يوم عندما يفقد هؤلاء الباعة مصدر دخل ينفقون منه على أنفسهم ومن يعولوهم.
ومن الواضح أن الحكومة عندما اتخذت هذا القرار لم تناقش أبعاده المختلفة مع أصحاب المصلحة المعنيين أو غيرهم من المتخصصين فى الاقتصاد وعلم الاجتماع كما أنه من الراجح أيضا أن نقل الباعة لموقف الترجمان أو موقف أحمد حلمى لم يكن قرارا موفقا من منظور هؤلاء الباعة والذين تراجع الاقبال على شراء بضاعتهم حيث اعتمدوا فى السابق على تواجدهم فى مناطق ذات كثافة عالية يتردد عليها العديد من المواطنين بشكل يومى.
وأرى أن أولى خطوات حل المشكلة هى ضرورة توافر معلومات وبيانات دقيقة عن عدد الباعة وظروفهم الاقتصادية والاجتماعية وحجم تجارتهم لتمكين متخذى القرار من دراسة التكلفة الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على اجلائهم أو نقلهم لمناطق أخرى. وهناك حلول واقعية وتجارب عملية نفذتها الدول التى عانت من نفس المشكلة يمكن الاستفادة منها فعلى سبيل المثال يمكن تخصيص يوم فى الأسبوع للباعة الجائلين لعرض بضاعتهم فى مناطق وسط البلد أو إنشاء أكشاك فى مناطق ذات كثافة عالية مثل محطات القطارات والأتوبيسات.
•••
وأخيرا فإن هذا المقال ليس دعوة لعودة الباعة لمنطقة وسط البلد ولا دفاعا عما تسببوا فيه من فوضى ولكنه انحياز لشريحة كبيرة من المواطنين المصريين تسببت الأوضاع الاقتصادية وغياب العدالة الاجتماعية فى عدم قدرتهم على ايجاد فرص عمل فى بلد يصل فيه نسبة من يعيشون تحت خط الفقر إلى ما يقارب الثلاثين فى المائة وهناك مثلهم تقريبا يوشكون على الدخول ضمن هذه الشريحة كما أنه دعوة للحكومة لعدم الاستهانة بوضع الباعة الجائلين ولإعطاء الامر اولوية والتفكير فى بدائل مبتكرة وحلول توفيقية بمشاركة هؤلاء الباعة وخبراء من التخطيط العمرانى والاقتصاديين.
تعليقات الفيسبوك