منذ اعتماد الحكومة المصرية سياسة الدعم عام 1945 وتخصيص مبلغ 2 مليون جنيه لهذا الغرض بواقع 60 قرشا للفرد، لم يتوقف هذا الدعم بل اتجه للزيادة المستمرة حتى اقترب الآن من نحو 150 مليار جنيه وأصبح نصيب الفرد منه 1650جنيها.
وينقسم الدعم إلى نوعين: الدعم العينى والدعم النقدى، فالدعم العينى هو توفير سلع وخدمات معينة لمحدودى الدخل بأسعار مخفضة ويعد هذا النوع الأكثر انتشارا، أما الدعم النقدى فيتم بتقديم مساعدات مالية مباشرة للفئات غير القادرة.
ولقد استقرت الحكومات المتعاقبة على تطبيق منظومة الدعم العينى، وتستحوذ المواد البترولية وحدها على 72% من الدعم يليها الخبز بواقع 8% ثم السلع التموينية بــ 6% وباقى النسبة توزع على دعم الكهرباء والمياه والتأمين الصحى.... إلخ.
ومنذ رفع جزء من الدعم عن بعض مشتقات الوقود فى يوليو الماضى والنقاش محتدم ما بين التأييد والمعارضة وإن اتفق الجميع على أن الطبقات الأكثر احتياجا هى الأكثر تضررا من هذا الرفع. وفى هذا الخصوص يمكن تسجيل ثلاث ملاحظات أساسية.
الأولى أن رفع جزء من الدعم ليس له وسيلة أخرى – حاليا ــ غير زيادة الأسعار على الجميع بسبب نقص ما يتوفر لدينا من بيانات عمن يستحق الدعم، والثانية أن السعر العالمى للوقود مازال أعلى بكثير مما يباع به فى مصر (متوسط سعر لتر البنزين فى إنجلترا نحو 14 جنيه مصرى).
وبالتالى فمن المتوقع أن تحدث زيادات أخرى فى أسعار الوقود، والثالثة والأهم أن الدعم المقدم لمن يحتاجونه فعلا لا يمثل أكثر من 35% مما تتكبده الحكومة الآن، أى أننا – مع استمرار الدعم فى صورته الحالية ــ سوف نستمر فى إهدار المليارات التى يذهب معظمها إلى جيوب القادرين والوسطاء ناهيكم عن عمليات تهريب السلع المدعومة للسوق السوداء بل ويتعدى الأمر ذلك إلى تهريب بعضها للخارج.
•••
ومن خلال نظرة مقارنة نجد أن برامج الدعم طبقت فى العديد من الدول مثل الهند والمكسيك وموزمبيق، وإن كانت التجربتان الإيرانية والباكستانية هما الأقرب للحالة المصرية بالنظر للتقارب فى عدد السكان والوضع الاقتصادى.
فإيران كانت ثانى أكثر الدول استهلاكا للوقود فى العالم بعد أمريكا وبالتالى دعما له بواقع 45 مليار دولار سنويا مما كان يستدعى ترشيد الدعم، ووافق بالفعل مجلس الشورى الإيرانى عام 2010 على تنفيذ المشروع العملاق الذى أطلق عليه «الجراحة العظمى للاقتصاد القومى».
وهو مشروع متكامل لرفع الدعم عن الوقود والغذاء (يستهلك 80% من إجمالى الدعم البالغ 100 مليار دولار سنويا) فى خلال خمس سنوات، مع التعويض المادى المباشر للفئات الأكثر احتياجا مما يمكن من توفير نحو 70 مليار دولار سنويا.
وبناء على هذه الخطة تم تصنيف المواطنين إلى ثلاث فئات (دنيا ووسطى وعليا) وبحيث يتم تحويل مبلغ مالى شهرى يتراوح بين 35 و 45 دولارا أمريكيا لكل منهم حسب فئته.
وفى باكستان تم إطلاق «برنامج بنظير» لدعم الدخل فى يوليو 2008 بهدف تقليل الاستهلاك ودعم الفقراء.
وتم ذلك بتقديم تحويلات نقدية بقيمة 1000روبية فى الشهر (نحو 10 دولارات أمريكى) للأسر المعنية، ثم رفع الدعم الشهرى إلى 1200 روبية (نحو 12 دولارا أمريكيا) فى يوليو 2013 لينتهى فى يوليو 2014 إلى 1500 روبية فى الشهر (15 دولارا أمريكيا).
وكما سبق القول ثمة اختلاف حول أفضلية أنظمة الدعم فلكل منها مزاياه وعيوبه، فالدعم العينى العام للأسعار يوفر السلع بأسعار مناسبة للفقراء لكنه يتسرب للأغنياء ويسمح بالتهريب.
أما الدعم النقدى فيتلافى عمليات تهريب السلع المدعمة للسوق السوداء ويتيح حرية اختيار السلع للفئات المستهدفة. لكن إمكانية تسرب الدعم لغير مستحقيه تظل قائمة ما لم يتم تحديد هذه الفئات وذلك بإنشاء قاعدة بيانات بالغة الدقة مع تحديثها بشكل مستمر.
هكذا يتضح أن الدعم النقدى الذى يوجه مباشرة للفئات المستهدفة هو النظام الأفضل لمصر كونه يوفر ما لا يقل عن 100 مليار جنيه سنويا ولن يؤثر – وهذا هو الأهم ــ على الفئات غير القادرة حيث سيتم تعويضها ماديا بما يتناسب مع أوضاع مصر الاقتصادية.
فهل تستطيع الدولة المصرية أن تغير نظام الدعم من عينى إلى نقدى؟ الإجابة نعم لكن بشرط توفر قاعدة بيانات موحدة وكاملة ودقيقة ومحدثة دوريا وبحيث يستخرج كل مواطن من هذه القاعدة بطاقة هوية رقمية ذكية يستخدمها فى كل شىء لتكون أولا بطاقة رقم قومى لإثبات شخصيته.
وثانيا بطاقة علاجية يقدمها لأى مستشفى أو أو عيادة خاصة لبيان تاريخه الطبى، وثالثا بطاقة لصرف السلع الأساسية والوقود والسماد، ورابعا بطاقة للتعامل مع فواتير الكهرباء والغاز والمياه والتليفونات، وخامسا بطاقة لإجراء جميع التعاملات مع البنوك بما فى ذلك الائتمان، وسادسا رخصة للسيارة وللقيادة.... إلخ.
•••
ويثير طرح هذه الفكرة تساؤلات ثلاثة أساسية هى: هل نستطيع فنيا إنشاء هذه القاعدة العملاقة من البيانات وضمان جودتها؟ وكيف يمكن تحديث هذه القاعدة؟ وأخيرا كيف تساهم الهوية الرقمية فى حل مشكلة الدعم؟
بالنسة للتساؤل الأول، فإن تجربة إنشاء قاعدة بيانات الرقم القومى التى تحتوى على بيانات 140 مليون مواطن مصرى بداية من مواليد عام 1900 حتى الآن تعد أفضل إجابة ممكنة، وذلك أن «مشروع الرقم القومى» الذى تم تنفيذه بنجاح فى بداية التسعينيات ــ كأحد برامج مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار ــ بواسطة مجموعة من أبرز الخبراء المصريين، يتضمن حاليا أشمل قاعدة لبيانات المواطنين وأدقها، ولقد كان له الفضل فى إجراء جميع الانتخابات التى شهدتها مصر على مدى السنوات الأربع الأخيرة بأقل قدر من المشكلات، وبالتالى يمكن التأكيد على أن مصر تملك القدرة الفنية والخبرات البشرية من أجل تصميم قاعدة البيانات العملاقة وتنفيذها وكتابة البرامج الخاصة بها، بل وبناء مركز الحوسبة السحابية الذى سيستضيفها وتأسيس شبكة الاتصالات القومية اللازمة لتشغيل هذه المنظومة.
ولتحقيق ذلك يجب أن يتم ربط قاعدة بيانات الرقم القومى بقواعد البيانات الأخرى فى الدولة مثل الكهرباء، والغاز، والمياه، والتأمينات، والتموين، والتليفونات، والسجلين الطبى والجنائى، والجوانب المالية...... إلخ، مع أهمية التأكيد على الدور الرئيسى للجهات السيادية فى استضافة هذه القاعدة العملاقة وتفعيل إجراءات سرية بياناتها وحفظها طبقا للمقاييس العالمية وإصدار التشريعات التى تضمن التزام الجميع بتنفيذ الإجراءات القياسية الخاصة بقواعد البيانات القومية.
ومن واقع التجربة الشخصية فإن المشكلة الرئيسية التى تواجه هذا الخيار تكمن فى الشق الخاص بتبادل المعلومات وربط قواعد البيانات ببعضها البعض، وبالتالى فإنه لابد من تشكيل لجنة قومية تتولى مسئولية تنفيذ هذه المهمة ويكون على رأسها أعلى مسئول تنفيذى فى الدولة بما يؤدى إلى مراجعة قواعد البيانات الحالية ووضع المعايير التى يجب أن تتوفر فى هذه القواعد من حيث مدى اكتمالها ومستوى تحديثها ودرجة دقتها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تتولى اللجنة تحديد مبادئ تداول هذه البيانات وتبادلها بين القطاعات المعنية وتنقيتها وتكاملها. وأخيرا تصميم قاعدة البيانات العملاقة التى سبقت الإشارة إليها وتنفيذها.
أما التساؤل الثانى الخاص بالتحديث، فإنه يتعلق بمسئولية كل مواطن عن تحديث بياناته والجهة التى سوف يقصدها لهذا الغرض، وفى إجابة هذا السؤال يمكن القول إن المواطن يتعين عليه أن يذهب إلى جهة حكومية لها الحق فى الاطلاع على البيانات المستجدة المتعلقة به والتأكد منها، وهى جهة تكون لها سلطة تحديث قاعدة البيانات.
يقترح أن تكون مكاتب البريد ــ وعددها 3800 مكتب ــ هى الجهة المنوطة بذلك، فمنذ تأسس البريد المصرى فى عام 1865 أصبح هو مركز الأعمال فى كل القرى والمقر المختار للتعامل البريدى والمالى، فمدخرات أكثر من 22 مليون مصرى موجودة فى «البوستة» بينما لا تتعدى نسبة المتعاملين مع البنوك 10% من المصريين.
ويستطيع العاملون فى البريد وعددهم 55 ألف موظف بقليل من التدريب أن يقوموا بهذا العمل، مع استخدام أدوات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات فى ربط مكاتب البريد بمركز الحوسبة الذى يستضيف قاعدة البيانات.
أما التساؤل الأخير الذى يرتبط بعنوان المقال فهو هل تكون الهوية الرقمية هى الحل لمشكلة الدعم؟، فإجابته دعونا نأخذ حالة الوقود كمثال، فعن طريق قاعدة البيانات نستطيع أن نعرف ما يدفعه المواطن العادى فى جميع احتياجاته المرتبطة بالوقود.
وهذا يمكن الوصول إليه عن طريق معادلة يصممها فريق من الخبراء تتضمن كل المدخلات بحيث ينتج فى النهاية رقم محدد بمبلغ مالى يتحمله المواطن ويتغير مع تغير نسبة الدعم، ويلى ذلك تحديد الفئات المتضررة من رفع الدعم عن الوقود وتقسيمها إلى فئات – طبقا للبيانات المخزنة فى القاعدة ــ تتدرج من الأكثر احتياجا إلى الأقل احتياجا مع تحديد مبلغ معين يتم إرساله شهريا إما إلى حسابات هؤلاء فى مكتب البريد أو البنك أو على التليفون المحمول (نسبة التشبع فى المحمول حاليا تصل فى مصر نحو 100%)، مع مراعاة أن كل تغير فى الأسعار يصاحبه تغير فى المقابل المادى. وهنا تستطيع أى حكومة أن ترفع الدعم عن القادرين وتعوض غير القادرين بطريقة مباشرة وديناميكية وأن توفر لميزانية الدولة عشرات المليارات توجه إلى التنمية أو إلى قطاعات كالتعليم والصحة.
•••
وبعد، إن ثمة مجهودات حالية للأخذ بأحد أشكال هذه القاعدة، لكن العبرة بشمولية هذه القاعدة وتكاملها والانتهاء منها فى أسرع وقت ممكن وأن تكون أول منتجاتها هى الهوية الرقمية. وإذا استطعنا تحقيق ذلك ــ وهذا ما أتمناه وأتوقعه ــ فإنه لن يساعد فقط فى حل مشكلة الدعم بل سوف يتعداها لحل كثير من مشاكل الوطن التى طالما عانينا منها وما زلنا.
تعليقات الفيسبوك