لدى قصة عن التخطيط العمرانى أبدأ بها هذا المقال كمقدمة ضرورية لتساؤلات أرى أنها مشروعة لى ولكل المواطنين الذين يهمهم أمر هذا الوطن، وقد بدأت قصتى هذه مع عملى أثناء فترة دراسة الدكتوراة فى جامعة جنيف، فقد اقتضت أوضاعى المالية الصعبة أن أبحث عن عمل يكفى أن أدخر منه ما يكفى لمواصلة دراستى، فلم أكن أحصل على أى دعم من الحكومة المصرية، وكنت أعتمد على منحة متواضعة من المعهد العلمى الذى كنت أدرس فيه، ثم توقفت بعد انتهاء سنتها الثالثة كما هو مقرر، وذلك فى الوقت الذى كنت على وشك أن أبدأ كتابة رسالة الدكتوراة. وهكذا قادنى بحثى عن عمل إلى إحدى الشركات الإيطالية التى كانت تقوم بإعداد دراسة للحكومة الليبية عن إعادة توزيع السكان، وكان ذلك أحد أفكار معمر القذافى فى بداية سبعينيات القرن الماضى.
ولذلك وجدت نفسى أعمل اقتصاديا فى قسم التخطيط العمرانى والإقليمى فى شركة الاستشارات الإيطالية فى روما، وتزاملت فى هذا العمل الذى استمر سنتين مع مهندسين ومخططين عمرانيين أحدهم هو الذى وضع تخطيطا لمدينة بنغازى فى ليبيا مع مدن أخرى فى كوريا الجنوبية ودول أخرى. وقد أعجبنى كثيرا العمل معهم ووجدته أكثر جدوى من تخصصى فى العلوم السياسية. فالمخطط العمرانى يضع مخططا لمدينة أو لحى لحساب حكومة أو شركة، وبعد برهة من الزمن يجد أن أفكاره تحولت إلى واقع يراه عشرات الآلاف من الناس، على عكس عالم السياسة الذى يندر أن يستمع أحد من رجال السياسة لما يكتب أو يقول. ولذلك عزمت على التحول عن العلوم السياسية إلى علم تخطيط المدن، وهو فرع يجمع بين الاقتصاد والسياسة والاجتماع ودراسات النقل والإسكان، ولم يصدنى عن هذه النية سوى نصيحة بعض الأصدقاء بأنه لا داعى لتضييع ما بذلته من جهد فى رسالة الدكتوراة فى العلوم السياسية وأنه يمكن لى أن أتحول إلى هذا الحقل العلمى الشيق فيما بعد. ومع اقتناعى بوجهة النظر هذه إلا أن عشقى لهذا الحقل استمر بعد ذلك من خلال القراءات وزيارة مدن مختلفة فى أنحاء عديدة فى العالم وإلقاء بعض المحاضرات والمشاركة فى الإشراف على رسائل جامعية.
•••
ولهذه الأسباب فقد تابعت التصريحات الحكومية حول العاصمة الجديدة منذ تولى المهندس إبراهيم محلب رئاسة الوزراء واستمرار الدكتور مصطفى مدبولى وزيرا للإسكان. وقد تعجبت من حديث وزير الإسكان عن عاصمة جديدة، فموضوع العاصمة محسوم فى الدستور الذى ينص فى مادته 222 أن القاهرة هى عاصمة جمهورية مصر العربية، فكيف يمكن الحديث عن عاصمة جديدة وهناك هذا النص الصريح فى الدستور؟ ألا يستوجب الأمر مناقشة عامة لهذا الأمر، والانتظار حتى انعقاد مجلس النواب لطرح مسألة تعديل الدستور عليه حتى يمكن مجرد بدء التفكير فى هذا الأمر؟، ولا يجب إطلاقا التعامل مع النصوص الدستورية بهذه البساطة. ومن ناحية ثانية لم أقتنع بالقول أن العاصمة الجديدة هى مجرد عاصمة إدارية أو مجرد مدينة أخرى، فالمدينة الجديدة سوف تكون مقرا للحكومة، ولمجلس النواب، وللسفارات الأجنبية، ومن ثم فسوف تكون هى بالفعل العاصمة السياسية للبلاد. ألن يكون بها مقر الرئاسة ومجلس الوزراء والسلطة التشريعية؟ ألم تصبح بون، تلك المدينة الصغيرة نسبيا فى ألمانيا هى عاصمة ألمانيا الغربية لأنه كان بها مقر الحكومة ومجلسى البرلمان الألمانى، ولم تعد برلين عاصمة لألمانيا الموحدة إلا بعد انتقال هذه الأجهزة الحكومية والسفارات الأجنبية لها؟ فكيف يمكن القول بأن المدينة الجديدة بكل المؤسسات الحكومية والبرلمانية والبعثات الأجنبية المعتمدة فيها لن تكون عاصمة البلاد.
وقد تبينت من خلال متابعتى لما يكتب فى الصحف عن هذا الأمر أنه لم يناقش فى مجلس الوزراء، ولذلك اعتبرت الأمر مجرد أفكار من الوزير، لأنه بحسب تصورى هذا الأمر يتجاوز بكثير وزير الإسكان، ففضلا عن بعده السياسى فلابد أن يكون فيه لوزراء عديدين آراؤهم، مثل وزير المالية الذى سينفق من ميزانية الدولة التى تواجه عجزا خطيرا على هذا المشروع، فضلا عن وزراء التخطيط والنقل والتعليم العالى والتعليم والصحة.. إلخ، بل وكذلك وزيرا الدفاع والداخلية حول تأمين حماية العاصمة الجديدة من أخطار محتملة خارجية وداخلية. وقد تأكدت أنه لم يعرض على مجلس الوزراء من خلال ما جاء من جانب أنصار هذا المشروع الذين اكتفوا بالقول إنه كان مطروحا فى برنامج الرئيس السيسى عندما كان مرشحا للرئاسة، وأنه قد تحدث عنه فى مقابلته التليفزيونية مع كل من لميس الحديدى وإبراهيم عيسى. هل يكون ذلك بديلا عن مناقشة متعمقة لهذا الموضوع فى مجلس الوزراء، بل ومناقشة واسعة فى المجتمع يشارك فيها المتخصصون بل ويتحاور حولها المواطنون كذلك؟، وخصوصا وأنه لم يكن هناك برنامج للرئيس السيسى فى حملته الانتخابية، فقد عدل فى النهاية عن طرح برنامج، وقال الأستاذ هيكل إن شخص الرئيس السيسى هو البرنامج.
•••
وقد جال بخاطرى حال العواصم الجديدة فى عدد من بلدان الجنوب والتى زرت بعضها، وما كتبه علماء التخطيط العمرانى عن هذه المدن، فالتحول إلى عواصم جديدة مثل برازيليا وإسلام آباد وأبوجا فى البرازيل وباكستان ونيجيريا لم يؤد إلى حل مشاكل العواصم القديمة من فقر وبطالة وتدهور فى مرافقها الأساسية. هذا أمر يعرفه من يزورون العواصم القديمة مثل ريو ديجانيرو وكراتشى ولاجوس. بل لقد أتيح لى أن أرى الأحياء الفقيرة فى ريو ديجانيرو التى تمتد على مسافة تصل إلى ستة كيلومترات على التلال التى تشرف على عاصمة البرازيل القديمة، بل ورأيت بعض سكانها يسرعون إلى مرافقى يشكون إليه متاعبهم ويرجون منه أن ينقلها إلى لولا رئيس البرازيل فى ذلك الوقت تصورا منهم أن مرافقتى بعربته الضخمة لابد وأن يكون من كبار رجال السلطة. وقد تعجبت أن أحدا من كبار المسئولين لدينا لم يدر بخاطره أن يدرس مثلا تجربة بكين، عاصمة الصين وهى أكبر بلاد العالم سكانا ومع ذلك لم يفكر قادة الصين فى التحول عنها إلى مدينة أخرى، وتمكنوا من الحد من الهجرة لها والارتفاع بمستوى المرافق فيها بحيث تصبح مدينة يسعد سكانها بالإقامة فيها، ويفخر قادة الحكومة الصينية بأنهم يمارسون عملهم ويواصلون تقاليد إدارة الدولة فى مدينة تاريخها عريق.
وقد ازدادت دهشتى عندما تم توقيع بروتوكول إنشاء العاصمة الجديدة اثناء انعقاد المؤتمر الاقتصادى فى شرم الشيخ. تصورت أن المؤتمر انعقد لكى تساعدنا دول وشركات أجنبية فى مواجهة مشاكل ذات أولوية فى الاقتصاد المصرى مثل الفقر الذى يصيب وفقا للأرقام الرسمية أكثر من ربع المواطنين، والبطالة التى يعانى منها مئات الألوف من الشباب أو نقص الطاقة الذى يصيب مرافق الإنتاج والخدمات فضلا عن الحياة العادية للمواطنين، أو تدهور جميع الخدمات الحكومية من تعليم ومواصلات وصحة ونقل. هل التفكير فى عاصمة جديدة هو أولوية قصوى فى بلد يعانى عجز الموازنة العامة وقلة الاستثمارات وتراجع معدل النمو؟ وماذا يقول من حضروا المؤتمر عن حكمة وضع الأولويات فى الحكومة المصرية.
•••
شعرت بالأسى عندما دارت فى ذهنى كل هذه الخواطر وقلت لنفسى لابد أن أساتذة التخطيط العمرانى فى مصر، هذا الحقل العلمى الذى عشقته ولكن لم أتخصص فيه، يعرفون نفس الشعور، حالهم كحال أساتذة العلوم السياسية، لا يستفيد من علمهم أحد فى بلادنا، ومع ذلك أتمنى أن يكون لهذه الخواطر، والتى عبر عن مثلها كثيرون، بعض الأثر فى دفع حكومتنا إلى العدول عن هذا المشروع، أو على الأقل الدخول فى حوار مجتمعى واسع حوله، وبعدها يكون القرار.
تعليقات الفيسبوك