كتب: مصطفى كامل السيد - أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة
أكتب لك يا سيادة الرئيس في موضوع يسبب لي ولكثيرين غيري قلقا شديدا. وهو ليس بالموضوع الشخصي، ولكنه يتعلق بمصلحة قومية مؤكدة ألا وهي استخدام موارد بلدنا المحدودة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها أفضل استخدام ممكن، وألا نحرم مصر في هذه الظروف الصعبة من أن توجه كل مواردها لما يشبع الحاجات الأساسية لمواطنيها أو لما يقيل اقتصادها من عثرته.
وهذا الاستخدام الرشيد لمواردنا المحدودة هو ما سوف يقدره لك شعب مصر وأجياله القادمة لأنهم هم أول المستفيدين منه، وهذا هو ما سيبقى اسمك محفورا بحروف من نور في سجل تاريخه عندما تسطر أحداث رئاستكم لهذا الوطن.
وحتى أنتقل إلى الموضوع الذى يشغلنى وكثيرين غيرى مباشرة وأنا أعرف مدى ازدحام جدولك اليومى بعظائم الأمور، فإنى أرجوكم سيادة الرئيس العدول عما يسميه الإعلام فى بلدنا مشروع إقامة عاصمة إدارية جديدة، وهى ليست فى حقيقة الأمر بعاصمة إدارية ولكنها عاصمة سياسية بكل معنى الكلمة لأنه سيكون بها قصركم الرئاسى، ومبانى الوزارات، ومقر لمجلس النواب، وحى للسفارات، وإن لم تكن هذه هى العناصر التى تجعل من أى مدينة عاصمة سياسية، فلا يدرى أحد ماذا تكون العاصمة السياسية بغير ذلك؟ وأسبابى لهذه الدعوة بالعدول عن هذا المشروع كثيرة، وشاركنى فيها من كتبوا حول هذا الموضوع فى صحف قومية ومستقلة وحزبية، وكلهم بلا استثناء ممن يؤيدونكم ويستبشرون برئاستكم لمصر فى هذا الظرف الدقيق.
•••
أول أسبابى هو أن قرار إقامة عاصمة جديدة هو ببساطة مخالف لأحكام الدستور الذى ينص فى مادتيه 222 و114 على أن القاهرة هى عاصمة جمهورية مصر العربية وهى مقر مجلس نوابها. وقد ذكرتم فى خطابكم بمناسبة ذكرى حرب أكتوبر أنكم تتحسبون من الحديث عن تعديل الدستور، ولكنكم عندما أعلنتم عن هذا المشروع فى المؤتمر الاقتصادى لم تشيروا إطلاقا إلى الانتظار لحين انعقاد مجلس النواب وطرح هذا الأمر عليه بل وجعله موضوعا للاستفتاء العام كتعديل للدستور ووفقا للآليات التى حددها هذا الدستور ذاته. ولم يشر أى ممن تصدوا لتنفيذ هذا المشروع إلى أبعاده الدستورية. ولعلكم حريصون يا سيادة الرئيس بعد كل القلق الذى أثاره حديثكم عن الدستور الطموح والنوايا الحسنة التى ألهمت صياغته ألا تعطوا أسبابا إضافية لهذا القلق بالمضى فى تنفيذ مشروع هو بالفعل مخالف لنص صريح فى الدستور.
وثانى أسبابى لدعوتكم للعدول عن هذا المشروع هو الأزمة الاقتصادية الخانقة التى تمر بها البلاد من عجز فى الموازنة العامة يتجاوز 10% من الدخل القومى أنتم دعوتم إلى الهبوط به إلى ما دون 8% هذا العام، ومن انخفاض فى حجم الاحتياطى الإستراتيجى من العملات الأجنبية إلى نحو 16 مليار دولار وهو ما يعتبره الاقتصاديون مؤشرا خطيرا على قدرة البلاد على الوفاء باحتياجات مواطنيها من السلع الأساسية المستوردة وحاجة صناعاتها إلى المواد الوسيطة ومصادر الطاقة، وهو ما يهدد أيضا بتدنى تقدير مصر فى نشرات التقويم الدولية التى هى مرجع لمن يريد من المستثمرين الأجانب التوجه للسوق المصرية. ومن أسباب الأزمة الاقتصادية الأخرى تفاقم العجز التجارى مع تراجع حجم الصادرات وزيادة الواردات، ولا توجد آفاق على انتهاء هذا الوضع قريبا مع تردد السياح فى القدوم إلى مصر بأعداد كبيرة تماثل ما عرفته فى السنوات التى سبقت ثورة يناير، ومع بطء حركة الاستثمار الأجنبى فى مصر. وإذا كان البعض يعلق آمالا على زيادة دخل مصر من قناة السويس بعد توسيعها، أو من زيادة إنتاج مصر من الغاز الطبيعى، فإن مثل هذه الآمال أمامها سنوات حتى تتحقق، فلن تتحول السفن العملاقة إلى قناة السويس بعد أسابيع من افتتاح توسعاتها، كما أن التباطؤ فى حركة التجارة الدولية لا يشجع على ذلك، وأخيرا فإن أمامنا بحسب ما جاء فى الصحف ثلاث سنوات على الأقل قبل أن يبدأ استغلال حقل الغاز الطبيعى الجديد فى البحر الأبيض المتوسط. هذه الأزمة الاقتصادية ارتفعت بحجم مديونية مصر الخارجية إلى 48 مليار دولار. أذكر أنى حضرت مؤتمرا فى جامعة جورجتاون بواشنطن فى سنة 1988 وكان موضوعه أزمة مصر الاقتصادية وقتها، فقد اعتبر القائمون على تنظيم هذا المؤتمر أن ذلك العام كان ظرفا عصيبا على مصر فقد بلغ حجم مديونيتها الخارجية 50 مليار دولار. نحن قريبون من هذا الرقم، والذى سوف يزيد مع اعتزام الحكومة المصرية طلب قرض من البنك الدولى يقدر بثلاث مليارات من الدولارات فضلا عن قروض من مؤسسات مالية دولية أخرى. فى ظل هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة نحن جميعا مدعوون إلى ترشيد إنفاقنا وقصره على أولوياتنا الملحة. فهل ترون سيادتكم أن بناء عاصمة جديدة بكل ما يتطلبه ذلك من نفقات ضخمة قدرتها صحيفة الإيكونوميست بما يبلغ 43 مليار دولار هو بالفعل أولوية ملحة للاقتصاد المصرى فى الوقت الحاضر؟
وثالث أسبابى أن هذا المشروع مكلف للغاية. ذكرت فى السطور السابقة أن تكلفته المبدئية 43 مليار دولار. هذه التكلفة سوف يتحملها الشعب المصرى ومحدودو الدخل فيه والذين وحدهم تقريبا هم دافعو الضرائب. هذا المشروع لا يحقق ربحا، ولذلك لن تشارك فيه أى شركة أجنبية أو مصرية إلا إذا كانت تضمن حصولها على تكلفة ما تقوم به وأرباحها منه، وإلا فلن تشارك. لم نسمع عن حكومة أجنبية أعلنت استعدادها لتقديم معونة لمصر لتمكينها من إقامة هذا المشروع. وخيرا لم يحدث ذلك فمن العار أن تعتمد مصر فى إقامة عاصمة لها على معونة أجنبية. وكما رأيتم بأنفسكم يا سيادة الرئيس فالتمويل الأولى الذى توافر للمشروع هو خمسة مليارات من الجنيهات اقتطعتها وزارة الإسكان خصما من أموال هيئة التنمية العمرانية، ربما كانت ستستخدم فى بناء مساكن للفقراء.
•••
ورابع الأسباب فى دعوتكم للعدول عن هذا المشروع هو أنه لا يضيف شيئا للاقتصاد الوطنى. هو لا يسهم فى توسيع الطاقة الإنتاجية للبلاد من صناعة أو زراعة. توسع الطاقة الإنتاجية معناه أنه يمكن توفير عائد من الإنتاج الصناعى أو الزراعى يتم تصريفه واستخدام الإيرادات الناجمة عنه فى تسديد قروض تكلفته. ولكن مشروع العاصمة الجديدة لا يضيف شيئا للطاقة الإنتاجية للبلاد. سمعنا أن شركات المقاولات التى ستقيم المشروع ستحصل على تكلفتها من بيع بعض أراضى المشروع للمصريين الذين يريدون الانتقال للسكن أو العمل فى العاصمة الجديدة، وبصرف النظر عن أن مثل هذا السلوك سوف يعيد إنتاج نمط المضاربة العقارية الذى كان سمة رئيسية للفساد فى السنوات الأخيرة لحكم مبارك، فإن كل ذلك مرة أخرى ليس له مردود مباشر على توسيع الطاقة الإنتاجية للبلاد.
وخامس الأسباب يا سيادة الرئيس أن هناك حاجات ملحة تستدعى توجيه قدر أكبر من موارد البلاد لمواجهتها. أولها هو النهوض بالتعليم العام من عثرته ومن التحديات الضخمة التى يواجهها حتى فى الحفاظ على مستواه المتردى. التعليم فى مصر هو الأسوأ تقريبا على مستوى العالم. لا تتفوق علينا فى سوء نوعية كل من التعليم الابتدائى والثانوى سوى دولة واحدة، فمكانتنا فيه وفق تقرير التنافسية العالمى هى 139 من بين 140 دولة. ألا يزعجكم ذلك يا سيادة الرئيس؟. ومع زيادة أعداد الأطفال الذين سيصلون إلى سن التعليم الإلزامى فى السنوات المقبلة فمصر بحاجة إلى إنشاء سبع آلاف مدرسة سنويا تقدر تكلفتها بمليارات الدولارات. متوسط كثافة الفصل الواحد فى المدارس الحكومية فى محافظة الجيزة يصل إلى مائة وعشرين تلميذ فى الفصل الواحد. ومستوى تحصيل الرياضيات والفيزياء فى مدارسنا الثانوية هو أقل من مستوى تحصيل الطلاب فى لبنان وتونس والأردن وتركيا. وتعليم الرياضيات والعلوم هو أساس التقدم فى القرن الحادى والعشرين. ولاشك أن هناك حاجات ملحة أخرى فى الصحة وتوفير الماء والكهرباء والمواصلات تقتضى توفير موارد إضافية لها.
وسادس الأسباب أن هذا المشروع لم يحظ بنقاش عام. قلتم إنه كان واحدا من المشروعات فى برنامجكم الانتخابى، ولكنكم لم تطرحوا برنامجا انتخابيا، وقال البعض إنكم البرنامج الانتخابى. ومع ذلك هذا المشروع يهم كل المواطنين. ألا تريدون أن ينتقل ملايين منهم للإقامة فى هذه العاصمة الجديدة؟. ألا يستحق مشروع إقامة عاصمة جديدة أن يطرح للنقاش على الرأى العام والمتخصصين ومنهم كثيرون فى مصر. شئتم ترك أمور الأمن القومى لرجال القوات المسلحة والشرطة وسلمنا بذلك علما أن هذه أمور يخوض فيها السياسيون والبرلمانيون والخبراء والمجتمع المدنى فى الدول الديمقراطية. ولكن إقامة عاصمة جديدة أمر لا يترك لدائرة ضيقة من المستشارين يتحدثون حولها فى غرف مغلقة ولا يضمون خبراء مستقلين فى هذه الأمور فى مقدمتهم خبراء العمران والاقتصاد والاجتماع وغيرهم كثيرون.
•••
أرجو يا سيادة الرئيس أن تؤجل تنفيذ هذا المشروع، وأن تنتظر تحسن الأوضاع الاقتصادية فى مصر، ليفتح النقاش حول قضايا القاهرة وكيف يمكن حلها، وتندرج خلاصة هذا النقاش فى خطة الدولة وبناء على أولوياتها الحقيقية والتى تحظى بتوافق عام.
تعليقات الفيسبوك