بينما نحن جميعا مشغولون بالصراع بين التيارين الدينى والمدنى، وبين الأحزاب القديمة والجديدة، وبين القوائم والأفراد، إذا بالفضيحة تأتينا من جانب آخر أهملته كل الأطراف، فضيحة ألا يتجاوز عدد النساء الفائزات بمقاعد برلمانية ثمانية وألا تزيد نسبة تمثيل المرأة فيما سمى ببرلمان الثورة على واحد ونصف فى المائة. وحتى لو تدخل المجلس العسكرى بصلاحيته الدستورية وقام بتعيين خمس سيدات آخريات من بين الأعضاء العشرة المعينين فإن نسبة تمثيل المرأة فى البرلمان ترتفع عندئذ إلى اثنين فى المائة أو أكثر قليلاً. تصوروا أن يكون برلمان مصر فى القرن الواحد والعشرين مكونا من ثمانية وتسعين فى المائة رجالا واثنين فى المائة نساء. أليست هذه فضيحة بكل المقاييس؟ بعد عشرات السنوات من انطلاق حركة تحرير المرأة، وبعد نضال نساء مصريات لإعطاء المرأة المصرية حقها فى المجتمع، وبعد كل ما فعلته الجمعيات الأهلية والحقوقية، وبعدما رددت برامج الأحزاب كلها الاسطوانة المعتادة عن حقوق المرأة السياسية والتمكين والمشاركة السياسية، بعد كل هذا ننتهى بهذه النتيجة المخزية والتى سوف تكون فى تقديرى وصمة فى حق البرلمان القادم ودليلا على الوضع الكارثى الذى تمر به الأحزاب والقوى السياسية فى مصر، وعلى أن البرلمان القادم لا يمثل المجتمع المصرى تمثيلا سليما ولا معبرا.
هذه الكارثة ليست ــ فى تقديرى ــ معبرة عن انحياز لدى الناخبين ولا عن تخلف أو انحياز لدى المصريين، بقدر ما تعبر عن أزمة حقيقية فى الوسط السياسى فى مصر بكل أطرافه. ولننظر فى الأطراف الرئيسية المسئولة عن هذا الوضع المشين.
قانون الانتخابات جاء معيبا فى مواضع كثيرة، وعلى رأسها موضوع المرأة. فقد اشترط القانون على القوائم المقدمة من الأحزاب أن يتضمن كل منها على الأقل سيدة واحدة، معبرا بذلك عن تمسك شكلى بتمثيل المرأة فى البرلمان ولكنه نوع من أداء الواجب فقط دون الاكتراث بالنتائج، وكان الأجدر أن يتضمن القانون ضوابط أكثر إلزاما بشأن ضمان حد أدنى من المشاركة النسائية. وكما ضمن القانون للعمال والفلاحين نصف مقاعد البرلمان، كان يلزم أن يضمن للمرأة نسبة من تلك المقاعد ولو ربعها بدلا من الاكتفاء بنص قانونى لا أثر له. ولكننا تأخرنا فى إدراك ما سوف يؤدى إليه تطبيق القانون بحذافيره، وانشغلنا بالصراعات الحزبية، واعتبرنا أن فرض كوتة لتمثيل المرأة من أعمال النظام السابق التى لا يجوز الاقتداء بها أو تكرارها رغم أن هذه كانت انتصارات حققتها الحركة النسائية المصرية لا النظام السابق.
أما الأحزاب السياسية المتنافسة فقد فهمت المطلوب منها ولم تتردد فى أن تأتى بالمرأة على قوائمها فى ترتيب متأخر يحقق الالتزام بالنص القانونى ولكن يلغى واقعيا كل فرصة حقيقية لتمكين النساء من دخول البرلمان. وللأسف أننى لا أعفى أى حزب من وزر المشاركة فى هذه المؤامرة الصامتة، فقد قضينا الوقت نستهزئ بالأحزاب السلفية التى استبدلت صور النساء على قوائمها بالورود والزهور، ولكن فى نهاية المطاف جاءت النتيجة واحدة، وهى أن الأحزاب الليبرالية والمدنية والإسلامية والصوفية والاشتراكية والرأسمالية كلها اجتمعت على أمر واحد، وهو إقصاء المرأة من برلمان الثورة والاكتفاء بتطبيق القانون بشكل شديد الحرفية والانتهازية. كان من الواجب على الأحزاب أن تخاطر، وأن تجرب، وأن تقدم مبادئها المتعلقة بتمكين المرأة وبمشاركتها فى العمل السياسى على السباق المحموم على المقاعد، ولكن فى النهاية لم يتردد أى منها فى استبعاد النساء من المواقع المتقدمة على القوائم ظنا أن الحنكة والخبرة والدهاء السياسى تتطلب ذلك، وتم تبرير ذلك بأن مصلحة النساء تتحقق أكثر لو تم انتخاب رجال قادرين على الدفاع عن حقوق المرأة بدلا من انتخاب المرأة نفسها، وهذه حكمة فاسدة وسوف تثبت الأيام أن لا شىء يحقق مصلحة المرأة ويعطيها حقوقها كاملة سوى مشاركتها بنفسها فى صنع القرار وفى التشريع لا الاعتماد على انفتاح عقول الرجال ولا على تعاطفهم مع القضية النسوية.
ثم إننى لا أعفى من المسئولية الحركة النسائية ذاتها. فبعد كل هذا التعب والتنظيم وبعد كتابة الأوراق والدراسات، وتنظيم المؤتمرات والندوات، والحديث فى كل مناسبة تليفزيونية، إذا بها وقت الجد لا وجود لها مطلقا، لا فى الأحزاب، ولا فى الدوائر، ولا فى أى مكان آخر. هذا ليس للتقليل من التاريخ الناصع لنضال نساء ورجال على مدى القرن الماضى كله من أجل دفع قضية المرأة للأمام، ولكن لتوضيح أن الجهود لم تكن مؤثرة لأنها وقت الجد، وحينما سنحت الفرصة، إذا بها غير قادرة على التواجد الفعلى على الساحة السياسية، ولا التأثير على الرأى العام، ولا التأثير على صناع القرار.
الخلاصة أننا فى ورطة حقيقية. كيف سيمكننا أن نزعم أننا نمثل مصر كلها بينما نصفها لا يمثله فى البرلمان سوى واحد فى المائة؟ وكيف نجرؤ على تشريع قوانين لا يشارك فى إصدارها سوى الرجال فقط؟ وكيف ندعى تمثيل جميع المصالح والتيارات والرؤى السياسية بينما المرأة المصرية غائبة عن العمل التشريعى؟ وكيف نواجه العالم بهذه النتيجة المشينة؟ الوضع مؤسف حقيقة، ولكن لعل فى ذلك درسا لنا جميعا وفضيحة تجعلنا نستيقظ من السبات العميق الذى أصاب الحركة النسائية فى مصر ومن التواطؤ الذى شاركت فيه الأحزاب السياسية. البرلمان ليس نهاية المطاف ولا هو باق إلى الأبد، ولكن لنبدأ فى تعلم الدروس السليمة من الآن حتى نكون أكثر استعدادا وأكثر تصميما فى المرة القادمة.
ورب ضارة نافعة، على الأقل لن يكون هناك خلاف فى مجلس الشعب القادم حول جلوس النساء بجانب الرجال، فقد حلينا المشكلة من جذرها واستبعدنا النساء من المجلس أصلا. أما السيدات الثمانى اللواتى دخلن المجلس، فتحياتى لهن أيا كانت أحزابهن وانتماءاتهن السياسية، فعليهن مسئولية جسيمة وأمامهن مشوار طويل.
تعليقات الفيسبوك