كتبت: فريدة النقاش
لن تكون واقعة الاقتتال الطائفي في مدينة الخصوص الفقيرة هي الأخيرة من نوعها مادام الحكم في مصر طائفيا. وأصف الحكم بالطائفي رغم إدعاء الرئيس «محمد مرسي» أنه رئيس كل المصريين، فالإدعاء شيء والممارسة الواقعية شيء آخر. ثبت خلال ما يقارب العام الآن من حكم الإخوان المسلمين في مصر أن التمييز ضد المسيحيين والنساء بإدعاء أن جوهر الهوية هو إسلامي، أن هذا التمييز هو عمل ممنهج تأسس علي الدوافع والمنطلقات الدينية لمكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين والذي يمارس مهام الحكم فعليا وإن من وراء الستار. فتأججت الفتن الطائفية واستيقظت المشاعر العدوانية الكامنة.
وكان برنامج الجماعة هو الأساس الفكري الذي انطلق منه الدستور الجديد، ذلك الدستور الذي تحايلت الجماعة بكل السبل غير المشروعة لكي يأتي علي مقاسها متجاهلا التنوع الهائل في المجتمع المصري والتعددية الكبيرة التي تجعل منه مجتمعا ثريا بثقافته وتراثه وقيمه، أي أكبر كثيرا من أن تهيمن عليه فئة واحدة بفكرها الضيق والمحدود وبآليات عملها التي تقوم علي السمع والطاعة، وتعتبر نفسها هي جماعة المسلمين والمؤمنين، والآخرون كافة هم الأعداء سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين نساء أو فقراء، لأن المضمون الحقيقي لسياستهم الاقتصادية والاجتماعية هو رأسمالي وحشي وطفيلي.
ومن هذا المنطلق حرض أحد رجالهم في خطبة جامع بالخصوص ضد المسيحيين الذين يطالبهم البعض بدفع الجزية وكأننا نجري إلي الخلف لنعود إلي زمن الفتح الإسلامي لمصر، ثم نهدم كل تراث الدولة الحديثة كدولة مواطنين لهم حقوق وعليهم واجبات لا تمييز بينهم بسب الجنس أو الدين أو العرق أو الطائفة.
كشفت الدراسات العلمية :اجتماعية ونفسية عن تكوين الشخصية المصرية عبر التاريخ أن هذا التكوين متعدد المنابع والروافد التي لعبت فيها الثقافات والديانات والفلسفات والحياة الشعبية أدوارا متفاوتة لتصنع الهوية الجامعة المصرية من تفاعلات هذا التعدد والغني، وليس الدين- علي أهميته- إلا عنصرا واحدا من عناصر هذه الهوية الجامعة المتغيرة والمتطورة عبر الزمن. وقد عمل التغير والتطور لا فحسب علي التفاعل الجدلي لكل العناصر وإنما أيضا علي تطويعها لتدخل في صيغته المتجددة والتي تخضع في آخر المطاف للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. ولأن مثل هذه الأوضاع هي شرط حاسم من شروط إنتاج الثقافة وتكوين الهوية، سوف نلاحظ أن معظم وقائع الاقتتال الطائفي تنفجر في المناطق الفقيرة حيث لا أفق ولا أمل في المستقبل. وإذ يعيش 40% من المصريين تحت خط الفقر في ظل سياسات طائفية لا تعدهم بشئ. وينتشر الاكتئاب الذي تجاوز 65% من المصريين وهو علي حد قول أحد الأساتذة نتجه حتمية لخيبة الأمل التي يحس بها بعض الشباب.
وليس مصطلح أخونة مؤسسات الدولة و«أسلمة» الفضاء العام قدحا في سياسات الإخوان ولكنه حقيقة واقعية تجري علي الأرض وتؤدي ضمن ما تؤدي إليه إلي تمزيق الهوية الجامعة للمصريين وإفقارها لتصبح ذات بعد واحد، وهذا بالضبط هو ما تفعله السياسات العامة جنبا إلي جنب أدوات الإعلام الدينية التي تختزل مصر في «إسلام» خاص بهم، وهي أبعد ما تكون عن قيمه العليا التي من ضمنها الإعلاء من شأن الإنسان كإنسان بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو العرق أو حتي الطبقة.
وهنا يثور السؤال لماذا يختار الحكم القائم عنصرا واحدا من عناصر تكوين الهوية الوطنية ويختزل فيه هذه الهوية بما يؤدي إلي إفقارها وتشويهها؟! أظن أنه من الخطز البين أن نختصر الاجابة عن هذا السؤال في حقيقة أن الذين يحكموننا هم جماعة دينية وطائفية، ولكنني أود أن أضيف إلي هذه الإجابة الأولية عنصرا آخر هو عنصر السياسة البراجماتية العملية وشعارها «اللي تكسب به إلعب به» وهم يجيدون استخدامه.
والشعب المصري هو شعب متدين فطريا منذ الحضارة المصرية القديمة بل إنه هو الذي ابتكر الدين والآلهة والعالم الآخر، ولذلك فإن الدين كأداة لتحشيده والتعامل معه وجذب تأييده هو أسهل الأدوات علي الإطلاق. وهكذا استثمر الإخوان كلا من التدين البسيط والفقر استثمارا ذكيا للوصول إلي السلطة، وعلي طريق الوصول هذا عملوا علي تمزيق الهوية الجامعة وتحويلها إلي جزئيات، ألم يوجه رئيس الجمهورية أول خطاب له إلي أهله وعشيرته في مجتمع كانت الحداثة عبر قرنين من الزمان قد جعلت منه مجتمعا متعدد الطبقات شحبت فيه التكوينات الفرعية مثل الأهل والعشيرة وصبت الثقافات الفرعية فيما هو أشمل وأعم، وتطورت مصر في اتجاه العالم الجديد، رغم كل التشوهات التي الحقتها بها سياسات الاستبداد والفساد. لن يدور الصراع إذن في المرحلة القادمة في بلادنا في إطار طبقي اجتماعي- اقتصادي فقط وإنما سيضاف إليه الصراع من أجل الهوية الجامعة المصرية ضد عملية التفتيت والإفقار التي يقوم بها الإسلام السياسي، وسوف تنتصر مصر الحقيقية في آخر المطاف.. ولكن علينا أن نكافح بوعي من أجل هذا النصر.. الذي سيقترب بقدر ما ندفع ثمنه.
تعليقات الفيسبوك