يبدو السؤال ملحا من حين إلى آخر، خاصة عندما يصل سوء الأوضاع في الجامعات المصرية إلى الحد الذي تعتبرها فيه الدولة منشآت عامة تحميها قوات عسكرية ويمكن أن يحال طلابها وأساتذتها على السواء إلى المحاكمات العسكرية، حال اتهامهم من قبل هذه القوات بممارسة العنف والتخريب في الجامعة. ورغم أن العام الدراسي الحالي شهد تحركا جيدا من أساتذة الجامعات لوقف تعديل المادة التي تسمح بعزل أساتذة الجامعات من وظائفهم، إلا أن السلطة الحالية اكتفت بتطمين الأساتذة الغاضبين عبر رئيس مجلس الوزراء ابراهيم محلب بأن التعديل تم التراجع عنه.
ولا يمكن تناول سؤال تراجع دور الأساتذة إلا في إطار التطورات السياسية والاجتماعية التي أثرت على الجامعة المصرية خلال العقود الماضية، وانعكاسها على أوضاع الجامعات في السنوات الأربع الأخيرة بعد الانتفاضة الشعبية في 25 يناير 2011. فقد عانت حركة أساتذة الجامعة قبل انتفاضة يناير من ضعف التأييد لها داخل أوساط أعضاء هيئة التدريس، واقتصرت على مجموعة محدودة من الأساتذة أصحاب التاريخ الطويل في النضال من أجل استقلال الجامعة. ورغم أن انتفاضة يناير منحت قطاعات وشرائح مختلفة الفرصة للتفاعل مع العمل العام ومطالب الإصلاح والتطوير للدولة ومؤسساتها، إلا أن مثل هذا التغيير لم يصل لأساتذة الجامعة، إلا فيما تعلق فقط بموافقة أغلبية الأساتذة من خلال استفتاء طرحته وزارة التعليم العالي في أغسطس 2011 على الانتخاب المباشر للقيادات الجامعية. بينما كان طلاب الجامعات من أعضاء الحركات الشبابية والسياسية وبعض الطلاب الذين شاركوا في انتفاضة يناير ومظاهراتها المليونية ينظمون احتجاجات حاشدة في بداية العام الجامعي 2011/2012 في جامعات مختلفة للمطالبة بإقالة القيادات الجامعية، كان لافتا فيها الحضور الضعيف لأساتذة الجامعة مقارنة بحماس ومشاركة وأعداد الطلاب.
وفي محاولة فهم ما حدث في الجامعة المصرية لا ينبغي إغفال تجربة مجموعة العمل من أجل استقلال الجامعات 9 مارس والتي مثلت منذ تأسيسها في عام 2004 صوتا مسموعا ومثيرا للجدل داخل الجامعة وخارجها، صوتا طرح مبادىء استقلال الجامعة ودافع عنها بالكلمة والقلم والوقفات الاحتجاجية والدعاوى القضائية والمؤتمرات والبيانات. وانتزعت مجموعة 9 مارس حكما قضائيا في 2010 يقضي بطرد وحدات الحرس الجامعي التابعة لوزارة الداخلية من الجامعات، ما جعل المجموعة محط أنظار المتابعين للشأن الجامعي وفاعل مهم في الحياة الجامعية. إلا أن هذه المجموعة من أساتذة الجامعات المهتمين بالعمل العام والشأن السياسي وعلاقته بالجامعة واستقلالها لم تكن يوما تمثل أغلبية أو تيارا كبيرا داخل أوساط أعضاء هيئة التدريس، بمعنى أدق لم يكن هناك اهتمام واسع بين أعضاء هيئة التدريس في الجامعات الحكومية المنتشرة في محافظات وأقاليم مختلفة بالقضايا المرتبطة باستقلال الجامعة.
وهنا ينبغي البحث عن الأسباب التي منعت تطور حركة أساتذة الجامعة واتساع قاعدة المؤيدين لها بين أعضاء هيئة التدريس والتي حرمت مجموعة العمل من أجل استقلال الجامعات 9 مارس من الاستمرار بنفس الزخم الذي صاحب عملها قبل انتفاضة يناير، نجملها في ثلاث نقاط كما يلي:
أولا: عانت الجامعة المصرية من السيطرة الأمنية المباشرة خلال سنوات حكم الرئيس الأسبق مبارك، وكان للأجهزة الأمنية اليد الطولى داخل الجامعة وخاصة فيما يتعلق بتعيين أعضاء هيئة التدريس والسماح لهم بالسفر لحضور المؤتمرات العلمية والحصول على المناصب الإدارية القيادية، وفي مثل هذا المناخ الذي يهدر كل مبادىء استقلال الجامعة، يتحول الأستاذ الجامعي تدريجيا إلى "موظف" يخشى الكلام والمبادرة والنقد ويطيع الأوامر التي تصدرها القيادات الجامعية و"الأمنية" أيضا ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
ثانيا: أهملت الدولة على مدار عقود تحقيق أي إصلاح لهيكل الرواتب الخاص بأعضاء هيئة التدريس، ما جعل المكانة الاقتصادية والاجتماعية للأستاذ الجامعي في انحدار مستمر، وقابل أساتذة الجامعات هذا التجاهل لحقوقهم المادية والاجتماعية بالبحث عن مصادر أخرى للدخل بعيدا عن وظيفتهم الأساسية في التدريس والبحث وتربية الأجيال الجديدة، ويمتد عمل الأساتذة ما بين البرامج الخاصة وغير ذلك داخل الجامعة، إلى المشروعات والشركات والهيئات الخاصة والعامة خارج الجامعة، في محاولة لتأمين دخل مناسب لمكانتهم. يؤدى ذلك إلى تدني اهتمام الأستاذ الجامعي بوظيفته الأساسية وانحسار اهتمامه بقيم استقلال الجامعة والحرية الأكاديمية، فالأمر هنا يتعلق بمؤسسة لا يشعر بانتماء حقيقي لها ولا تضيف له جديدا في حياته العملية.
ثالثا: أصاب حركة الأساتذة التي دعمت مطالب استقلال الجامعة والحريات الطلابية تفتت وتآكل داخلي، ويكفي أن تتابع المؤتمر السنوي الأخير لمجموعة 9 مارس لتفاجىء بأن عدد الحضور من أساتذة الجامعة لا يتعدى 20 شخصا بأي حال من الأحوال في ظل غياب كبير لغالبية الأساتذة الذين شاركوا سابقا في فعاليات المجموعة. وأضف إلى ذلك انضمام بعض الرموز التاريخية لحركة الدفاع عن استقلال الجامعة إلى تأييد النظام الجديد الذي يستهدف القضاء على استقلال الجامعة. ومما أثر في المشهد أيضا الاعتقالات الكبيرة التي تعرض لها الأساتذة المنتمين للإخوان المسلمين والمؤيدين لهم والتي وصلت إلى 140 عضو هيئة تدريس، وأثر ذلك سلبيا على قدرة أساتذة الإخوان على الحركة داخل الجامعة في ظل تربص الأجهزة الأمنية بهم.
يجب أن تسترعى هذه النقاط اهتمام المتابعين والفاعلين في الشأن الجامعي، ولا سبيل لتجديد حيوية حركة أساتذة الجامعات دون تناول الأسباب الحقيقية التي أدت لإضعافها، وعلى المجموعات النشطة في الدفاع عن استقلال الجامعة مهمة كبيرة تتمثل في تفادي الأخطاء والفتور الذي أصابها والعمل المنظم مع أعضاء هيئة التدريس لتحفيز وتطوير وعي المجتمع الأكاديمي، والعمل على فهم تأثير السيطرة الأمنية والأوضاع الاجتماعية وتراجع الحريات في المجتمع على مواقف أعضاء هيئة التدريس، ومن ثم التحرك لإيجاد حلول تسمح للحركة بالعمل وحشد التأييد في صفوف أعضاء هيئة التدريس.
تعليقات الفيسبوك