-1-
لا تنشأ ثقافة ولا يزدهر فن في فراغ. الثقافات والفنون تعيش بالتفاعل والتلاقح. وأسطورة وجود فن "أصيل" أنتج محليا بلا مؤثر خارجي هي محض افتراض غير علمي، ولا يخلو من نعرة عنصرية سخيفة.
لكن الفرق شاسع بين تلاقح المنتج الثقافي أو الفني الوافد، مع التقاليد الثقافية والفنية المحلية لتستوعبه وتهضمه أولا ثم تثري بالتفاعل معه، وبين الاستيراد السلبي وغير المبدع لمنتجات فنية "سابقة التعليب" (على نحو ما نجد مثلا في تجارب سخيفة لبعض وجوه ما سمي "بالأغنية الشبابية" في مطلع تسعينات القرن العشرين).
وموعدنا اليوم، مع تجربتين استثنائيتين، تفاعل فيهما موسيقيو مصر المحروسة مع واحد من أروع الإيقاعات اللاتينية الراقصة، إيقاع التانجو. لنر كيف تلقى مبدعان عظيمان هذا الإيقاع الجميل، وهضماه تماما، لينتجا لنا فناً أصيلاً ومنفتحاً في الوقت نفسه على فنون العالم وموسيقاه. سنستمع اليوم إذن "لتانجو فصيح" هُضِم واستُوعِب تماما، ليثري فنَنَا ويقدم لنا دررا من أجمل ما في إرثنا الموسيقي العربي الأصيل.
-2-
قصة التانجو: التاريخ الراقص للعولمة
نحتفل هذا العام بمئوية التانجو، الإيقاع الراقص الساحر، في طبعته المعولمة. ما معنى هذا؟ الحكاية ببساطة أن التانجو إيقاع عالمي بامتياز. فهو إيقاع ورقصة نشآ من اختلاط إيقاعات أفريقية وردت عبر كوبا إلى الأرجنتين (كانت تسمى بإيقاع الهابانيرا Habanera، نسبة للعاصمة الكوبية هافانا، أو "هابانا" بالنطق الإسباني التقليدي، حيث الحضور الأقوى للإرث الأفريقي في الموسيقى اللاتينية) ، وبقيت في الأرجنتين شاهدا على مؤثرات ثقافية أفريقية عميقة اختفت مع الإبادة الكاملة للسكان الأصليين والعبيد المستوردين من أفريقيا للعالم الجديد.
فالأرجنتين –مثل شيلي وأورجواي- من الدول التي أبادت السكان الأصليين والعبيد الأفارقة المستوردين تماما، ولذا فسكانها اليوم جميعا من البيض. لكن الثقافة الأرجنتينية، وفي القلب منها رقصة التانجو البديعة، كثقافة كل الشعوب، هي نتاج لتاريخ ثري تلاقحت فيه عدة مؤثرات من شتى بقاع الأرض.
على أية حال، ظهر التانجو بصورته المعروفة حاليا في مطلع القرن العشرين، كرقصة شعبية أولا، ولكنها انتقلت تدريجيا إلى أمريكا الشمالية، ثم انتقلت –في السنوات السابقة مباشرة على الحرب العالمية الأولى- إلى أوروبا. وفي رحلتها للعالمية، التي سلكت طريقا طويلا من الأرجنتين في أقصى جنوب أمريكا اللاتينية لأوروبا الغربية، تحولت من رقصة محلية شعبية، إلى رقصة للطبقات الوسطى والأرستقراطية، التي ترتاد دور السينما (الاختراع الجديد آنذاك) وتستمع للاسطوانات القادمة من العالم الجديد. باختصار تحول التانجو من رقصة شعبية في شوارع الأرجنتين إلى معيار للأناقة والتحذلق في أوروبا.
ومع الحرب العالمية الأولى، وما صاحبها من حضور "أوروبي" قوي في دول الشرق، عرفت مصر هذا الوافد الموسيقي الجديد، في طبعته الأوروبية، وتلقفته الشرائح العليا من المجتمع المصري، وبالتدريج بدأ التانجو يتسلل إلى المحافل الموسيقية المصرية، بادئا من المراقص والكباريهات التي كانت تستهدف الجنود الأجانب وأغنياء الحرب المحليين (بإيقاعات أجنبية ترضي أذواق القوات الوافدة، التي تزايدت في القاهرة والمدن المصرية الكبرى عقب إعلان الحماية البريطانية على مصر، وأغان مصرية مبتذلة –شارك فيها أحيانا عمالقة الغناء المصري في بداياتهم الأولى- لتناسب أذواق أغنياء الحرب من رواد كباريهات ذلك الوقت).
وما أن انتهت الحرب العالمية الأولى، حتى انتهت معها الطبعات الموسيقية المبتذلة التي سادت خلالها، لتبدأ مغامرة التجديد الموسيقي الكبرى التي بدأها سيد درويش، الموسيقي المصري العبقري والمنفتح في ذات الوقت على التقاليد الموسيقية العالمية التي أتاحتها ظروف الحرب وزيادة الوجود الأجنبي في بر مصر.
وعزز اختراعان جديدان نسبيا في ذلك الوقت (السينما والاسطوانة) من الميل التجريبي لدى موسيقيي النهضة الموسيقية المصرية. فقد فرض شيوع الاسطوانات على المغنيين والملحنين، ضبط مدة الأغاني وتقصيرها ليتاح تسجيلها على اسطوانات ذلك الزمان. وأدى ذلك لتضييق المساحة المتاحة للارتجالات المفتوحة والمواويل وسط الأغاني، والتي كانت منفذا أساسيا لإبداع ملحني ومغنيي القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وعززت احتياجات صناعة السينما (فيلم له مدة زمنية محددة لا تزيد عن ساعة ونصف، وبالتالي لا يمكن أن تزيد مساحة أي أغنية خلاله عن دقائق قليلة) من هذا التوجه.
خلق ذلك حاجة ماسة لطرق جديدة للإبداع (غير الإطالة والارتجالات مفتوحة المدة). وكان الانفتاح على إيقاعات جديدة، والمزاوجة بين الموروث الغنائي والتقاليد الموسيقية العالمية الوافدة مع الاسطوانات وأفلام السينما، من أهم هذه المنافذ الجديدة للإبداع. وهكذا وصل التانجو إلى عقر دارنا الموسيقي!!
-3-
التانجو الوهابي: سهرت منه الليالي
وليس مصادفة أن يكون أول تانجو في تاريخ الموسيقى العربية من إبداع الملحن والمجدد الأعظم في تاريخنا الموسيقي، العبقري محمد عبد الوهاب، وأن يأتي في صورة أغنية سينمائية من فيلم "دموع الحب" إنتاج عام 1935. لنستمع إليها:
ونلاحظ ابتداء، واحدة من أهم سمات التجديد اللحني عند عبد الوهاب، وهي اعتماده على القصائد بالفصحى وليس الأغاني بالعامية، عند إدخال الإيقاعات الغربية لأول مرة في ألحانه. ربما كان ذلك لأن الفصحى في رأيه أقدر على إقامة الصلة بين الإيقاعات الوافدة وتقاليد الغناء العربي القح. وربما رأى أن الفصحى –بحكم المسافة القائمة بينها وبين اللغة العامية التي يتكلمها عموم السميعة- تجعل هؤلاء السميعة أكثر تقبلا للتجريب فيها من الأغاني بالعامية (التي قد يفترض المستمع أنها يجب أن تكون أكثر شعبية ومحلية، وبالتالي لا يتم دمج الإيقاعات الوافدة فيها إلا بعد أن يكون المستمع قد تعرف عليها واعتادها).
على كل، اختار عبد الوهاب الفصحى في هذه الأغنية لتقديم إيقاع التانجو، كما فعل عندما قدم إيقاع الرومبا لأول مرة في قصائد مثل جفنه علم الغزل وعندما يأتي المساء.
-4-
الكلمات لحسين شوقي، نجل أمير الشعراء. وهي كلمات بسيطة شكلاً (قصيدة عمودية، بقافية واحدة من أول القصيدة لنهايتها "الليالي/مالي/سالي...الخ") ومضموناً. فالكلمات تصف محباً يهيم عشقاً بمحبوبه ويسهر بسببه الليالي، ويتمسك بحبه ولو صده المحبوب (إن صد عني حبيبي/فلست عنه بسالي)، ويستسلم لحالة العشق رغم معاناته، فلا قيمة للحياة بغير الحب (قلب بغير غرام/جسم من الروح خالي)، ثم يدعو محبوبه للتجاوب معه والكف عن الدلال الذي يخفي غراما متبادلا (قل للأحبة رفقاً بحالهم وبحالي/ يبدون صداً ولكن يضمرون وصالي) فما أقصر الحياة لتضيع في مكابرة غير مجدية. وهذا بالتحديد هو معنى البيت الشهير "ما أقصر العمر حتى نضيعه في النضال"، والذي أسيء فهمه كثرا من سميعة محدثين تصوروا البيت دعوة للنكوص عن النضال الوطني والرجعية السياسية!! (وهي معاني لا صلة لها إطلاقا بمضمون الأغنية والقصيدة، أو بسياق الفيلم الذي تغنى خلاله).
-5-
مقابل بساطة كلمات الأغنية، يستعرض عبد الوهاب في هذه الأغنية عضلاته اللحنية بشكل مذهل. فالأغنية تبدأ بمقدمة موسيقية من مقام النهاوند وباستخدام إيقاع التانجو (عبر آلات الكمان والأكورديون، التوليفة الشائعة في موسيقى التانجو)، لكن عبد الوهاب يغني من بداية الأغنية من مقام النوا أثر، ثم ينتقل إلى فرع من مقام العجم (يطوف بالحب قلبي)، ومنه إلى مقام الحجاز، ثم إلى مقام نادر في الغناء العربي –وإن كان شائع الاستخدام عند قراء القرآن في ذلك العصر- هو مقام "حجاز الغريب" (نوع من أنواع مقام السيكا)، ومنه إلى مقام الراست، ثم العجم إلى أن يختتم كما بدأ من النوا أثر. هذه اللفة الرهيبة تتم في لحن مدته 5 دقائق فقط! يعني ذلك أن عبد الوهاب عوض قصر مدة اللحن (وهو ما يقتضيه عصر الاسطوانة والفيلم الغنائي) من خلال تقديم إيقاع جديد للمستمع العربي هو إيقاع التانجو، بالإضافة إلى دورة مذهلة على مقامات موسيقية شائعة ونادرة يتنقل بينها اللحن برشاقة لا يستطيعها إلا فناننا الأعظم محمد عبد الوهاب.
بجانب هذا الثراء المقامي الرهيب، لدي ملاحظتان: الأولى هي أهمية مراقبة الكيفية التي استخدم بها عبد الوهاب –المغني، والذي كان يعيش أروع مراحل صوته وأقواها في الفترة الممتدة من نهاية العشرينات وحتى منتصف الأربعينات- خامته الصوتية الفذة، وتملكه المطلق لناصية الغناء الشرقي. فنسمعه يكر بسلاسة منقطعة النظير السلم الموسيقي لمقام النوا أثر عائدا من جوابه (أي نغماته الحادة) إلى قراره (نغماته الغليظة) في نفس واحد وباقتدار مذهل، وذلك في جملة "قلب بغير غرام/ جسم من الروح خالي". ومن يركز في أدائه لهذه الجملة يلمس بوضوح أنها قفلة "مشايخ" ضاربة الجذور في تقاليد قراءة القرآن في بر مصر المحروسة. الملاحظة الثانية تتعلق باستخدام مقام نادر في الموسيقى المصرية، وإن كان أكثر شيوعا في تلاوة القرآن، هو مقام حجاز الغريب (اعتبارا من جملة "أما رأيت حبيبي/في حسنه كالغزال).
ما أريد قوله هنا هو أن عبد الوهاب، بمروره على مقامات شرقية صرفة (حجاز الغريب/الراست...الخ)، وباستخدامه تقنيات أدائية وحلي مقامية راسخة الجذور في تقاليد تلاوة القرآن، يظهر لنا أنه ليس مجرد "مستورد" لإيقاع أجنبي يقحمه بسذاجة وافتعال على لحن وكلمات عربية. على العكس تماما، نحن أمام نموذج فذ على استيعاب المؤثر العالمي ودمجه باقتدار وسلاسة كاملة وبدون أدنى افتعال في كلمات فصيحة، ومقامات لا تقل فصاحة. وهكذا أتانا الساحر عبد الوهاب بالتانجو الفصيح!!
-6-
يا ساعة بالوقت إجري: فريد الأطرش ونور الهدى
ما أن أدخل عبد الوهاب التانجو في الموسيقى العربية حتى وقع في أسره عتاة الملحنين في مصر المحروسة، خاصة عند تعاملهم مع الأغاني السينمائية، من العبقري محمود الشريف (مثال: لحنه المذهل لليلى مراد "أطلب عينيه")، إلى المجدد الكبير محمد فوزي (مثال: رائعته "راح توحشيني").
كان التانجو إذن ابناً شرعياً للسينما الغنائية في مصر، ازدهر مع ازدهارها واندثر استخدامه مع تراجع واندثار السينما الغنائية. لهذا، ليس مدهشا أن نجد أن فريد الأطرش، بما هو "رائد السينما الغنائية المصرية" من أهم من استخدموا إيقاع التانجو في أغانيهم. كيف؟
مرت السينما الغنائية في مصر بثلاث موجات رئيسية، الأولى في الأربعينات ومطلع الخمسينات، وسيطر عليها تماما فريد الأطرش (31 فيلما غنائيا) من جهة وليلى مراد من جهة أخرى، والثانية في الخمسينات ومطلع الستينات وكان أبرز نجومها الرباعي (محمد فوزي/عبد الحليم حافظ/شادية/صباح)، والثالثة كانت في السبعينات وقامت على اكتاف سعاد حسني أساسا (برباعيتها مع صلاح جاهين: خللي بالك من زوزو/المتوحشة/أميرة حبي أنا/شفيقة ومتولي) وثلاثية وردة الجزائرية (حكايتي مع الزمان/أه يا ليل يا زمن/صوت الحب) والتجربة الهامة لعفاف راضي (مولد يا دنيا).
-7-
وكان فريد الأطرش –أكثر من قدم أفلاما غنائية في تاريخ السينما المصرية– هو أيضا أكثر من لحن باستخدام إيقاع التانجو. والطريف أن تجربة فريد الأطرش مع التانجو تحكي ببلاغة شديدة قصة التانجو في الموسيقى المصرية. كيف؟
بدأت التجربة الأولى لفريد الأطرش مع التانجو، من خلال لحن صيغ على طريقة اسكتشات الكابريهات، في فيلم "ماقدرش" الذي قام ببطولته مع تحية كاريوكا سنة 1946، ثم انتقل لغناء التانجو بالفصحى (مثال: قصيدة "يا زهرة في خيالي" من فيلم حبيب العمر سنة 1947)، ووصولا إلى غناء وتلحين أغاني تانجو بالعامية مثل أغنية "يا حبيبي طال غيابك ليه يا قاسي" من فيلم عفريتة هانم سنة 1949، واللحن الرائع الذي سنستمع له اليوم من غناء العظيمة المنسية نور الهدى، وهو لحن "يا ساعة بالوقت إجري" من فيلم "ما تقولش لحد" (إنتاج 1952).
-8-
الكلمات الرشيقة لمحمد علي أحمد، أحد نجوم الموجة الثانية للسينما الغنائية المصرية، ومن أشهر أعماله أغاني فيلم "لحن الوفاء" الذي قام ببطولته عبد الحليم حافظ. وهي كلمات بسيطة تعكس حالة شوق المغنية للقاء محبوبها وتعجلها موعد لقائهما. ليس في الكلمات ما يحتاج الشرح من حيث المضمون. أما من حيث الشكل، فهي مصاغة في قالب الطقطوقة، وتتكون من مذهب عبارة عن بيتين موحدي القافية (إجري/ بدري)، ثم 3 أغصان/كوبليهات مصاغة في صورة رباعيات تتطابق فيها قوافي البيت الأول مع الثالث، والثاني مع الرابع. هكذا، نجد في الكوبليه الأول مثلا (قربه/جنبه والغياب/العذاب) وتتكرر اللعبة في الكوبليهين التاليين.
هذا الشكل البسيط للطقطوقة، ومضمونه الخفيف، عكسه فريد الأطرش باقتدار في لحنه، ليتحفنا بدون استعراض عضلات لا مبرر له ولا يتناسب مع الكلمات، بأحد ألحانه الراقصة الخفيفة الرائعة من مقام الكرد.
ومن باب الاستطراد السريع، أصارح القارئ أنني أعتقد أن الألحان الراقصة الخفيفة تعد أهم إسهامات فريد الأطرش كملحن. وقد ظُلِم فريد الأطرش من عدد لا يستهان به من السميعة الذين ركزوا –مدحا أو ذما – على بكائياته الطويلة، وكأن الأغاني القصيرة والخفيفة لا تليق بالمستمعين المتقعرين، فغاب عنهم بعض من أجمل ألحان فريد الأطرش وأخفها دما.
على كل، فقد التزم فريد –ظاهريا– بالشكل التقليدي للطقطوقة، الذي تبناه سيد درويش في جميع طقاطيقه، ويقوم على أن تغنى كل أغصان/كوبليهات الطقطوقة بنفس اللحن. لكن فريد الأطرش لم يلتزم تماما بالشكل التقليدي للطقطوقة، وبدلا من أن يتكرر غناء المذهب بين الكوبليهات –وهي الطريقة المألوفة في تلحين وغناء الطقطوقة- استخدم حيلتين: الأولى هي أن ينهي كل كوبليه بقفلة موحدة هي عبارة عن تكرار البيت الأول من المذهب، في صورة قفلة مذهلة تكر فيها نور الهدى باقتدار شديد كل السلم الموسيقي لمقام الكرد من جوابه (نغماته العليا) لقراره (نغماته الغليظة) في نفس واحد (جملة "يا سااااااااعة بالوقت إجري") في قفلة تشبه الطريقة التي استخدمها عبد الوهاب في أغنية سهرت وأوضحناها أعلاه. أما الحيلة الثانية، فهي تكرار اللازمة الموسيقية الرائعة، بدلا من تكرار غناء المذهب بين الكوبليهات.
وإلى جانب هذا الشكل المبدع في بناء الطقطوقة، مارس فريد الأطرش لعبة طريفة في اللحن، فصاغ المقدمة الموسيقية بإيقاع سريع وراقص هو إيقاع "الفوكس تروت"، يليها غناء المذهب من إيقاع شرقي صرف هو "إيقاع المقسوم"، ثم جاءت كل الكوبليهات بلحن موحد في إيقاع التانجو. أي أن فريد الأطرش يقدم لنا هنا "تنوعا إيقاعيا" مزج فيه بسلاسة ورشاقة بين إيقاعين "غربيين" وإيقاع "بلدي" بدون أي عقد، في مؤشر واضح على قدرته على استيعاب المؤثرات والإيقاعات الغربية ودمجها في خياله اللحني الشرقي الصميم.
مقاميا، يخلو اللحن من الفذلكة، ليتناسب مع الكلمات الرشيقة والجو الراقص للأغنية. هكذا يبدأ اللحن في مقام الكرد (المقدمة الموسيقية والمذهب) مع نقلة واحدة فقط في مطلع كل كوبليه لمقام الحجاز، ثم العودة في القفلة الرائعة لمقام الكرد من خلال استعراض للقدرة الصوتية المبهرة لنور الهدى في أن تجري لنا على السلم الموسيقي لمقام الكرد كاملا في ختام كل كوبليه لتسلمنا إلى اللازمة الموسيقية المبهجة التي تتكرر بين الكوبليهات.
فريد الأطرش من أجمل الملحنين وأقلهم حظا مع الأجيال الحديثة. وستكون لنا زيارات قادمة عديدة لإبداعاته المتنوعة.
-9-
تبقى كلمة أخيرة بشأن صوت نور الهدى. خامة كلثومية مبهرة، مرت في حياتنا الموسيقية مرورا سريعا، إذ اقتصر حضورها على الأفلام منذ أن اكتشفها يوسف وهبي وأهداها اسمها الفني الذي عرفت به. وقامت ببطولة أفلام غنائية مع عبد الوهاب (لست ملاكا) وفريد الأطرش (ماتقولش لحد، وعايزة اتجوز) ومحمد فوزي (مجد ودموع). ولم تؤهلها طبيعتها المحافظة من ناحية، ومحدودية موهبتها التمثيلية من ناحية أخرى لأن تتربع على عرش السينما الغنائية (كليلى مراد أو شادية)، فتراجعت شهرتها مع تراجع الموجة الأولى من الأفلام الغنائية وبقيت دررها الغنائية (ومن بينها تسجيل مذهل، متوافر على يوتيوب، تغني فيه رائعة محمد عبد الوهاب "يا جارة الوادي" بسلطنة شديدة) في أضابير تسجيلات السميعة وبعيدة عن متناول الأجيال الأحدث التي لا تكاد تعرفها.
الصوت العبقري لنور الهدى يستحق تماما عناء البحث عن أغانيه، وهو نموذج لدرر منسية في تراثنا الموسيقي، استطاعت أن تؤدي القصائد الرصينة والأغاني التقليدية (المصرية واللبنانية في حالة نور الهدى) بنفس الثقة التي غنت بها إيقاعات الفوكس تروت والتانجو.
استمتعوا وتسلطنوا! وموعدنا الأسبوع المقبل.
تعليقات الفيسبوك