«تجد في قلب كل تقلب سياسي هام ثورة ضريبية"، هكذا لاحظ توماس بيكيتي، مؤلف كتاب"الرأسمالية في القرن الواحد والعشرين"، الذي يحلل ظاهرة التفاوت في الدخول وصار أحد الكتب الاقتصادية الأكثر مبيعا في العالم.
ويعطي بيكيتي أمثلة من تاريخ فرنسا والولايات المتحدة: اختفى النظام القديم عندما صوتت المجالس الثورية لصالح إلغاء المزايا الضريبية لطبقة النبلاء ولرجال الدين، وأحلت محلها نظاما ضريبيا حديثا شاملا للجميع.
كما وُلدت الثورة الأمريكية من إرادة سكان المستعمرات البريطانية من أن يأخذوا بيديهم أمر ضرائبهم ومصائرهم (مع تبني القاعدة الشهيرة: لا ضرائب بغير تمثيل).
أما في مصر، كشفت ثلاث معارك حديثة بين الأغنياء والحكومة أن التقلب السياسي الذي حدث، منذ أكثر من أربع سنوات، لم يتجسد بعد في شكل نظام ضريبي أكثر عدلا أو شمولا. وذلك رغم المحاولات المتعددة الخجولة للتغيير في هذا الاتجاه.
تراجع الضريبة على الدخول العليا
رضخت الحكومة مؤخرا لمطالبات الأغنياء بإلغاء الحد الأعلى للضريبة والذي فُرض مؤقتا على الدخول العليا. كانت الحكومة قد فرضت ٣٠٪ ضريبة على الدخل السنوي الذي يزيد على مليون جنيه، وذلك بصفة مؤقتة ثلاث سنوات. «ما لبثت أن أُلغيت هذه الضريبة بعد عام واحد من تنفيذها، تحت الضغوط"، كما كشف عبد الفتاح الجبالي، مستشار وزير التخطيط. وهكذا، نجد أن الإيرادات التي جمعتها الحكومة من ضريبة الدخول خلال الأشهر التسعة الأولى من السنة المالية الحالية قد وصلت بالكاد إلى نصف الحصيلة التي خططت أن تجمعها بانتهاء العام المالي في نهاية يونيو. وذلك على الرغم من تسارع معدلات النمو الاقتصادي (والذي يتجاوز ٤٪ خلال نفس الفترة، وهو ما يترتب عليه عادة زيادة في الحصيلة الضريبية).
وهكذا رجع معدل الضريبة الأقصى على الأغنياء إلى ٢٥٪. وبالمثل، صارت الشركات أيضا تدفع نفس هذا المعدل كضريبة على صافي أرباحها. ولكنهم لم يكتفوا. فها هم يضغطون للحصول على تخفيض آخر، بحيث يقتربون من وضعهم ما قبل ثورة يناير. وقد بشرهم بالفعل وزير المالية هاني قدري حين أعلن في مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي في مارس الماضي بأن الحد الأعلى للضريبة سيكون ٢٢،٥٪، لأن هذا سيكون أكثر جذبا للاستثمارات. ولكن أفصح مصدر قريب من دوائر صنع القرار بأن هذا القانون لم يصدر بعد "لأن أحد المسؤولين غير راض".
في كل الأحوال لا تدفع كبرى الشركات وأغنى الأغنياء إلا فتات الضرائب، سواء عن طريق التجنب الضريبي أو التهرب الفج، مما يزيد من انعدام العدالة في توزيع الدخول.
فقد كشفت دراسة حديثة لعبد الفتاح الجبالي عن "النظام الضريبي والعدالة الاجتماعية" أن كبار الشركات ذات حجم أعمال بين نصف إلى مليار جنيه تدفع ضرائب أقل من الشركات الصغيرة (الأولى تدفع فعليا بين ٣.٥٪ إلى ٦٪ ضرائب عن صافي أرباحها، بينما الصغار وهم الأغلبية العظمى يتحملون ٢٩٪).
كان ذلك قبل الثورة، ولكن الوضع لم يتغير. فبعد الثورة اعترف الملياردير حسن هيكل الرئيس التنفيذي السابق في إي إف جي هيرمس، أكبر بنك استثماري في مصر، أنه لم يدفع ضرائب سوى ٢٪.
كما كشفت دراسة في ٢٠١٥، أصدرها المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية بعنوان "فوق الدولة.. الشركات المتعددة الجنسيات في مصر"، عن أن الشركات الكبرى تنجح في تجنب دفع الضرائب. وإحدى الطرق هي أن تفتح فروعا لها في ملاذات ضريبية تحول إليها أرباحها. مثل القلعة القابضة التي تملك ثلث شركاتها التابعة في مثل تلك الملاذات وانتهى بها الأمر لدفع 0.2٪ ضرائب عن أكثر من عشرين مليار جنيه صافي أرباح خلال عشر سنوات.
أو خذ مثلا نصف مليون مصري من الأطباء والمشاهير وكبار المحامين والمهندسين والمحاسبين والذين لا يدفعون في المتوسط إلا ٥٠٠ جنيه في العام ضرائب عن مكاسبهم، بدلا من عشرة مليارات من الجنيهات كانت ستذهب لتحسين حياة المصريين لو لم يتهربوا من الضرائب، وفقا لحسابات عبد الفتاح الجبالي.
الضريبة التي ضربت البورصة
انتصر المضاربون! احتفل رئيس الوزراء برضائهم عنه في مقصورة التدوال التي اكتست شاشاتها باللون الأخضر. لهذا الانتصار قصة: نظرا لعجز الموازنة الكبير ولحاجة الحكومة لتمويل تعليم وصحة أفضل، فرضت في بداية العام المالي الحالي (يوليو ٢٠١٤) ضريبة جديدة على الأرباح الناتجة عن التداول في البورصة.
يتعلق الأمر بمعدل تافه لا يتعدى ١٠٪ من صافي الأرباح المتحققة في نهاية كل عام. وفي المقابل، ومن أجل أن تسترضي شركات السمسرة كافأتها الحكومة بإلغاء الضريبة البالغة 0.1٪ على قيمة عمليات بيع وشراء الأسهم. كان من المفترض أن تحصل الحكومة على عوائد تبلغ ١٠ مليار جنيه.
ولكن، في بلد كمصر، وهي من الدول التي تدفع قليلا جدا من الضرائب مقارنة بعدد كبير من الدول الرأسمالية الناشئة والمتقدمة (١٣،٥٪ من الدخل القومي، في مقابل أكثر من ٢٥٪ في كل من البرازيل والولايات المتحدة)، يواجه فرض الضرائب مقاومة عنيدة.
وهكذا، حاولت جماعات مستثمري البورصة الضغط على الحكومة حتى ترجع عن قرارها: رفع السماسرة قضية على الحكومة، واختاروا وزير الاستثمار وسيطا لدى الحكومة، وهو الذي كان في السابق مديرا في أحد بنوك الاستثمار، ووعدهم خيرا. كما انخفضت أسعار الأسهم في البورصة كثيرا منذ ذلك الحين، لتزيد من إحساس الحكومة بلهيب الموقف.
وبانتظار القرار، فقد رئيس مصلحة الضرائب مصطفى عبد القادر منصبه، على إثر تصريح أدلى به عن التفكير في فرض ضريبة إضافية على صافي الأرباح الناجمة عن التداول التي تتجاوز خمسة ملايين جنيه في السنة. فقد حرم الرجل من المد بعد سن المعاش والذي يحصل عليه عادة كبار الموظفين. بقية القصة صارت معروفة. تم تجميد الضريبة لمدة عامين، حُرم المصريون من عشرين مليار جنيه.
يقول بيكيتي: "من المنطقي تماما أن يكون الشكل الذي تتخذه الضرائب في كل المجتمعات في قلب المواجهات السياسية".
في الحقيقة، في غياب أي شكل من أشكال المشاركة الشعبية في مثل تلك المواجهات، تصبح الحكومة بلا حول ولا قوة في مواجهة السلطة النافذة لكبار المستثمرين وللأغنياء عموما. خاصة أن من بين هؤلاء الذين يحصلون على دخول بالغة الارتفاع كبار الموظفين مما يقوي جانب جماعات المصالح التي ترفض مثل تلك الإصلاحات الضريبية.
لم يكن مصطفى عبد القادر أول موظف عام يفقد وظيفته لإغضاب الأغنياء. فقد سبقه سمير رضوان، أول وزير مالية بعد ثورة يناير. ويحكي رضوان أن لوبي المستثمرين القوي كان وراء إقصائه عن الحكومة بعد أن أقنعوا المجلس العسكري أن خطته لإصلاح الضرائب ستفسد مناخ الاستثمار.
كان رضوان وقتها قد اقترح حدا أعلى للضرائب يبلغ ٣٥٪ على الدخول العليا، بالإضافة إلى ضرائب تصاعدية على الأرباح الرأسمالية وضرائب عقارية. النتيجة: إجهاض الخطة وتخفيض سقف الإصلاحات.
الضرائب العقارية: خطوة للأمام.. خطوتان للخلف
في ٢٠١٤، نجحت الحكومة أخيرا في فرض ضريبة على العقارات (بعد أن نجح الأغنياء في وقفها لمدة سبع سنوات) وكان الهدف أن تجمع الحكومة إيرادات تبلغ ٣.٧ مليار جنيه خلال هذا العام الذي ينتهي في يونيو القادم.
فكر في كل تلك المباني العالية ذات الواجهات الزجاجية، في كل الفنادق الفاخرة في كل أنحاء مصر، في القصور والمجمعات السكنية الحديثة.. أي مبنى تزيد قيمته على ٢ مليون جنيه من المفترض أن يدفع صاحبه مبلغا في حدود ٢٠٠ جنيه فأعلى بحسب قيمته.
ولكن بعد تسعة أشهر من إقرار الحكومة لتلك الضريبة، تعترف في تقاريرها أنها لم تجمع سوى ٨٪ فقط من الرقم الذي خططت لجمعه، أي ٣٠٠ مليون جنيه، لماذا؟ ما زالت نفس اللوبيهات ترفض أن تدفع ضريبة على مقراتها الإدارية والمباني الفندقية.
كان رئيس اتحاد الصناعات، محمد السويدي قد صرح في وقت سابق أن الاتحاد ما زال يتفاوض مع الحكومة حول اللائحة التنفيذية التي يأمل أن تعطيهم امتيازات في الدفع. ولكن الجبالي يكشف أن القانون قد تم تغييره في الخفاء. لم يتم أبدا الإفصاح عن تلك التغييرات.
يلخص بيكيتي الأمر: «يجب الاتفاق أن من عليه أن يدفع وكم سيدفع ومن أجل إعلاء أي المبادئ. هي مسألة ليست بالسهلة أبدا، لأن الناس مختلفون فيما بينهم من جوانب عدة، بدءا بدخلهم ورأسمالهم". في مصر، توازن القوي واضح. من يملك لا يدفع.
تعليقات الفيسبوك