كان نجاح مؤتمر شرم الشيخ استثمارا سياسيا بالدرجة الاولى، حيث عبر عن ثقة المجتمع الدولى ودوائر المال والأعمال فى مستقبل الاقتصاد المصرى، وبالتالى مثل هذا المؤتمر «نافذة أمل» للمصريين. وكأى حدث بهذا الحجم يحمل العديد من الفرص وكذلك العديد من المحاذير. والآن وقد ذهبت النشوة وجاءت الفكرة علينا التعمق فى التفاصيل والرهانات المستقبلية داخليا وخارجيا. فعلى الصعيد الداخلى يجب أن يكون هناك تنسيق وتعاون وثيق بين ثلاث وزارات محورية: التعاون الدولى، الاستثمار، التخطيط، لأن أى حزمة من المشروعات ذات عائد تنموى لابد أن تخضع لرؤية تخطيطية مستقبلية للتعرف على درجة التناسق بين تلك المشروعات وعلاقات الترابط الأمامية والخلفية بين هذه المشروعات، لأن هناك عناقيد من المشروعات تتكامل فيما بينها لأحداث نهضة وتنمية فى قطاعات معينة أو مناطق معينة. ثم يجىء دور وزارة التعاون الدولى لتحدد أنماط التمويل الخارجى لهذه المشروعات وشروطها وتعظيم عنصر المنحة فى هذه التمويلات.
•••
ولقد استقرت أدبيات التنمية على أن هناك معايير لتقييم العائد التنموى للاستثمارات فى البلدان الآخذة فى النمو على رأسها:
ــ الأثر على التشغيل وحل مشكلة البطالة.
ــ الأثر الصافى على ميزان المدفوعات، حيث إن هناك صادرات لها مكون استيرادى مرتفع.
ــ مدى قدرة المشروع ذى الطبيعة الاستراتيجية على خلق علاقات ترابط أمامية وخلفية مع المشروعات الأخرى لتقوية بنية الاقتصاد الوطنى.
ــ نمط توزيع عوائد هذه المشروعات بين الفئات الاجتماعية والمناطق الجغرافية المختلفة، حيث إن البعد المكانى فى توزيع الاستثمارات اصبح له أهمية كبرى فى بلد مثل مصر تعانى من عدم توازن اقليمى كبير (مثل تنمية الصعيد وتنمية سيناء)، وهذا كله يعنى ان المشروعات المقترحة والتى يوجد بشأنها اتفاقات استثمار ومذكرات تفاهم يجب ان تخضع لاختبار درجة واقعيتها واتساقها مع أهداف التنمية.
•••
وفى إطار ما يتوافر من بيانات، جاء قطاع البترول والغاز على رأس القطاعات التى تم توقيع اتفاقات استثمارية بشأنها، يليها قطاع الكهرباء فى المرتبة الثانية. ورغم أهمية مشروعات الطاقة، لم تحظ قطاعات الصناعة التحويلية والزراعة بأى تدفقات استثمارية باستثناء مشروع لإنشاء صوامع للحبوب.
وبالنسبة لمذكرات التفاهم التى تم توقيعها خلال المؤتمر، كانت الغلبة للمشروعات العقارية (نحو 73 مليار دولار) بما فيها مشروع العاصمة الإدارية الجديدة، يليها قطاع الكهرباء (نحو 32 مليار دولار).
بيد أن الغائب الأكبر فى مؤتمر شرم الشيخ كان هو الحديث عن مستقبل قطاع الأعمال العام، وهذا يتعلق بتحديد نمط الأولويات الجديرة بالعناية فى ظل شُح الموارد التمويلية خصوصا وأن هناك أزمة شديدة تمر بها الوحدات الإنتاجية فى قطاع الأعمال العام. وقد أشار تقرير حديث للجهاز المركزى للمحاسبات إلى أن ١٨ شركة من شركات قطاع الغزل والنسيج فى مصر قد خسرت نحو ٢ مليار جنيه. كما أشار التقرير إلى أن شركات الغزل تحقق خسائر متتالية منذ سنوات، ويشمل ذلك شركة مصر لصناعة معدات الغزل والنسيج. كذلك أشار نقيب الصيادلة إلى أن شركات الأدوية الحكومية مهددة بالإفلاس لأنها تقوم باستيراد ٩٥ بالمئة من الخامات الدوائية من الخارج.
وتلك قضايا فى منتهى الخطورة لأنها تتعلق بالحفاظ على الأصول الإنتاجية المملوكة للمجتمع وعدم تبديد التراكم الرأسمالى للأصول العامة الذى تم خلال عقود طويلة. وبالتالى، فإن هناك أولوية ملحة لتطوير وتجديد الطاقات الإنتاجية وحل مشاكل التشغيل والصيانة والتسويق والتمويل فى هذه الشركات. وأن تحتل الأولوية اللائقة بها، هذا رغم أن احتياجاتها التمويلية ليست كبيرة مقارنة بالمشروعات العملاقة الجديدة، وأن حماية هذه الصناعات لتظل على قيد الحياة هو حماية فى نفس الوقت للعمالة المدربة ومنعا لتفاقم مشكلة البطالة.
•••
ونظرا لضخامة التمويلات الأجنبية التى تمخض عنها مؤتمر شرم الشيخ فإن الأمر يستدعى إجراء حساب دقيق لهيكل تمويل تلك المشروعات الجديدة وطول فترات السماح والنمط الزمنى للالتزامات التى تترتب على هذه القروض، إذ أن هناك طاقة قصوى لأى اقتصاد فى تحمل عبء الاستدانة. وقد حذّر البروفيسور راجنر فريش الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد من هذه المشكلة فى مقال شهير بعنوان «السرعة مع السلامة» speed with safety) (، وطالب بوضع حد أقصى للمديونية الخارجية فى إطار الخطة الخمسية الثانية التى لم يتم إنجازها فى مصر نظرا لاندلاع حرب ١٩٦٧، فالإفراط فى المديونية الخارجية يثير العديد من المشكلات فى المستقبل على النحو الذى نشهده حاليا فى اليونان.
•••
تبقى هناك نقطتان استكمالا للنقاش، النقطة الاولى تتعلق بخطاب كريستين لاجارد مدير صندوق النقد الدولى التى بدأت بمقطع من أغنية أم كلثوم «وما نيل المطالَب بالتمنى » ثم أكملت بما مؤداه أنها تأخذ بتطبيق روشتة صندوق النقد الدولى للإصلاح الاقتصادى. أما النقطة الثانية فتتعلق بالنمط المعمارى المقترح للعاصمة الإدارية الجديدة، إذ أن 'الماكيت' المقترح لها يشابه النمط المعمارى فى مدينة دبى حيث ناطحات السحاب والأبراج على النمط الأمريكى والتى لا تتناسب فى رأيى مع الشخصية المصرية والتراث المعمارى المصرى، ولهذا فإن التصميم المعمارى لهذه المدينة يجب أن يخضع لمسابقة معمارية مفتوحة على نحو ما حدث فى مكتبة الاسكندرية على سبيل المثال، وبما يحقق أيضا أكبر قدر من الوفر فى النفقات والتصميمات الصديقة للبيئة، وهو موضوع يتطلب أن يدلى فيه المخططون الحضريون والمعماريون المصريون بدلوهم، وفى ذلك فليجتهد المجتهدون.
تعليقات الفيسبوك