منذ أعلن التيار الشعبي عن مقاطعته الإنتخابات البرلمانية المقبلة ثم تبعه إعلان موقف حزب الدستور، ومن بعده جبهة الإنقاذ وهناك جدل حول الموقف السياسي الأنسب فى هذه اللحظة، والحقيقة أن الانتخابات ما هي إلا واحدة من آليات التغيير، وما هي إلا لقطة من مشهد سياسي أكثر تعقيدا يضم في جنباته أشكال مختلفة من الاحتجاج الشعبي، وبالتالي المقلق ليس قرار المقاطعة في حد ذاته (لأن الانتخابات برمتها ليست اللحظة الفاصلة فى مسار الثورة)، لكن ملابساته التي تنبئ عن مأزق تاريخي لغياب القيادة حتى هذه اللحظة.
هناك أربع ملاحظات في هذا الصدد تبدأ من موقف المقاطعة لكنها ــ في تقديري ــ تتخطاها لما هو أبعد من ذلك لتشمل الأداء السياسي لجزء كبير من المعارضة.
أولا: نزعة التطهر الثوري ومحاولة إلباس الموقف السياسي الخالص ثوبا أخلاقيا. فنرى التيار الشعبي وعلى رأسه الأستاذ حمدين صباحي يعلن المقاطعة منفردا ثم يليه الدكتور محمد البرادعي، في تسابق على تسجيل مواقف حتى دون التنسيق مع شركائهم في الجبهة وهو ألف باء العمل المشترك. التسابق على تسجيل هذا الموقف وتبيانه على أنه الموقف «الأخلاقي» الوحيد وليس فقط الموقف السياسي الصحيح يحمل عدة مخاطر للأداء السياسي لأحزاب المعارضة. فبينما البعض يزايد ويتمسح في عباءة الدين لإكساب مواقفه السياسية شرعية زائفة تنزلق المعارضة للمزايدة بالأخلاقية بدل تأسيس الموقف على منطق سياسي، وهو ما يضعف منطق المقاطعة خاصة وإن أحزاب جبهة الإنقاذ وبعض قياديها قد شاركوا سابقا في انتخابات ٢٠١٠ تحت حكم مبارك وبضمانات أقل كثيرا، ثم في انتخابات ٢٠١١ تحت حكم العسكر والتي تزامنت مع مذبحة محمد محمود في نوفمبر من العام نفسه. وبالتالي محاولة بناء موقف المقاطعة على أساس أخلاقي يفتح الباب لتساؤل حول مدى اتساق مواقفهم، فالأجدى هنا هو محاولة شرح الفرق في الموقف السياسي وبالتالي في مناسبة تكتيك المقاطعة من عدمه.
ثانيا، لم تبذل الجبهة المجهود الكافي في محاولة بناء مقاطعة قوية فبينما أعلنت موقفها كانت بعض الأحزاب من أعضاء الجبهة تناقش بشكل منفرد نزول مرشحيها بشكل مستقل للالتفاف على قرار الجبهة التي من الواضح أن بعض الأحزاب لا تستطيع الالتزام به. فهناك إشكالية أن الأحزاب على خلاف الحركات السياسية ومنظمات المجتمع المدني والنشطاء هي بالتعريف أوعية للمنافسة السياسية مجالها الأساسي هو مضمار الانتخابات، وبالتالي فإن قرار المقاطعة يطرح عليها السؤال الصعب حول آلية عمل أعضائها في ظل هذا القرار ومدى إمكانية تواصلهم مع الجماهير وما سوف تكون الآليات البديلة لعمل ذلك وكيفية تعويضهم للخبرة المتراكمة من المشاركة في الانتخابات.
ثالثا، لم تطرح الجبهة سيناريو متكاملا لتصورها عن ما بعد المقاطعة، أو الإجابة عن سؤال ماذا بعد؟ البعض يرد ولكن ماذا بعد المشاركة أيضا. والحقيقة أن هناك فارقا كبيرا، ففي ذهن قطاع واسع من الجماهير المشاركة في الانتخابات تتيح التغيير وتطرح بدائل، فحينما تشارك تستطيع تشكيل برلمان متوازن وربما حكومة تأتي بالسياسات التي تدافع عنها، وتستبدل بها سياسات خصمك التي ترفضها، في حين أن عدم المشاركة يحرمك من هذه الفرصة وعليه فمن واجب جبهة المقاطعة إيضاح بدائل آليات التغيير في هذه الحالة. أزعم أن جزءا مهما من فوز «نعم» في استفتاء مارس ٢٠١١ كان مرتبط بوجود خارطة طريق واضحة لهذا المسار (برغم عواره)، وبالتالي فإن عبء الإثبات يقع على المطالبين بالمقاطعة ليس لخطأ موقفهم بشكل مبدئي، لكن لأنه يستلزم طرح بدائل ليست بوضوح بديل المشاركة وليست معلومة للرأي العام بالضرورة.
رابعا، جاء جزء من تأسيس موقف المقاطعة بوضعه في الثنائية الخاطئة التي تصور أن هناك مسارا سياسيا تمثله الانتخابات وبناء المؤسسات ومسار «ثوري» يتمثل في الاحتجاج الشعبي من مظاهرات واعتصامات إلى آخره، وأن علينا الاختيار بين المسارين. والحقيقة أن هذا الفصل التعسفي بين المسارين لا يجوز وليس حقيقيا في اللحظة الثورية الممتدة منذ يناير ٢٠١١. فالمساران مرتبطان شئنا أم أبينا، فالانتخابات لا تغني عن ضغط الشارع وأشكال التعبير السياسى الأخرى، كما أن التواصل السياسى مع الجماهير عن طريق الحملات الانتخابية يجوز أن يكون محفزا لأشكال الاحتجاج الأخرى وإعادة بناء المؤسسات بشكل جذري، وليس إصلاحيا كما تراه السلطة الحاكمة. وليس من قبيل العبث السياسي أو التواطؤ مثلا أن شارك البلاشفة بقيادة لينين في انتخابات برلمانية في أوج الثورة الروسية فى ١٩١٧. والمدهش في الأمر أن قبول هذه الثنائية المفتعلة بين ما يسمى المسار «السياسي» والثوري» هو بالأساس في هذه اللحظة نفس المنطق الإصلاحي المحافظ الذي تتباه جماعة الإخوان المسلمين لمحاولة إسكات أشكال الاحتجاج الشعبي بدعاوى بناء المؤسسات.
هذه الملاحظات لا تندرج فقط تحت مناقشة قرار المقاطعة ولكنها إشكاليات أوسع تتطلب منا التفكير والعمل سريعا على بناء شكل معارضة جديد. نحن في مأزق تاريخي بين سلطة رجعية لا تختلف كثيرا في مضمون سياساتها عن النظام السابق، ومعارضة لا تملك رؤية كلية حول بدائل وسبل التغيير بعيدا عن سياسة رد الفعل وانتقاد مثالب الإخوان التي أصبحت من المعلوم بالضرورة.
تعليقات الفيسبوك