حين قرر الرئيس محمد مرسى أن يعامل الطلاب السوريون الذين وفدوا مع عائلاتهم معاملة الطلاب المصريين فى المدارس والجامعات فإنه أعاد إلى مصر بعضا من قسمات وجهها التى محاها النظام السابق ومنذ اختار أن يكون كنزا استراتيجيا لإسرائيل متخليا عن دورها التقليدى كقبلة وبيت للعرب وكنز استراتيجى لهم. أدرى أنه ربما كان مبكرا فتح ذلك الملف الآن لأن النهوض بمسئولياته مرهون باستعادة مصر لعافيتها، الأمر الذى تسعى إليه جاهدة فى الوقت الراهن. وأفهم أن محنة الشعب السورى الطارئة هى التى فرضت اتخاذ هذه الخطوة، ألا أننى أفهم أيضا أنه إذا لم يكن بمقدور مصر أن تقدم مبادرات عربية تستعيد بها دورها المفترض فلا أقل من أن تكون لها سياسة عربية واضحة المعالم.
وقد شممنا تلك الرائحة فى اقتراح تشكيل المجموعة الرباعية للتعامل مع الأزمة السورية (تضم إلى جانب مصر كلا من إيران وتركيا والمملكة السعودية). شممناها أيضا فى الاجتماعات التنسيقية التى تمت أخيرا بين وزراء خارجية مصر وتونس وليبيا. وهى خطوات طيبة تستحق التشجيع والحفاوة، وأزعم أنها يجب أن تصنف ضمن ما وصفته بالروائح الذكية التى صارت تهب علينا فى الآونة الأخيرة، وشممنا بعضا منها فى زيارة الرئىس المصرى للصين وإيران.
أردت بهذه الخلفية أن أذكر بأمرين، أولهما عام يتعلق بالتنبيه إلى أن عودة مصر إلى موقعها بين العرب أمر ليس ميسورا، وليس مرحبا به من جانب الأطراف التى سعت إلى عزلها عن محيطها، ومن ثم تقزيمها سواء للاستفراد بها أو بالعالم العربى. وهى الأطراف التى تدرك جيدا معنى أن تكون مصر بيتا للعرب، كما تدرك تداعيات غيبة مصر عن الساحة العربية. لذلك فلست أشك فى أن هذه النقلة ستعترضها الألغام والعراقيل التى أرجو أن تفشل فى تحقيق مرادها. وللعلم فإن القادة الإسرائيليين الذين اعتبروا توقيع السادات لمعاهدة السلام فى عام 1979 بمثابة الميلاد الثانى للدولة العبرية لم يطلقوا تلك المقولة فقط لأن مصر اعترفت بإسرائيل وأنهت خصومتها معها، ولكن أيضا لأنها خرجت أيضا من الصف العربى وتخلت عن موقعها فى قيادة الأمة. وحين فعلت ذلك فإن العالم العربى أصبح سفينة بلا ربان وجسما بلا رأس. والباقى بعد ذلك معروف.
الأمر الثانى يخص الطلبة الفلسطينيين الذين يدرسون فى مصر، وكانوا دئما، منذ الستينيات، مرحبا بهم ومشجعا لهم، حيث ظلوا يعاملون معاملة الطلاب المصريين فى الجامعات والمعاهد. ليست فقط لأن ثمة «بروتوكولا» يقضى ذلك تم التوقيع عليه من جانب الجامعة العربية فى عام 1964، ولكن أيضا لأن مصر فى تلك المرحلة كانت تعتز بانتمائها العربى وتمارس دورها القيادى الذى دفعها لأن تفتح أبوابها وأذرعها للأشقاء سواء فى شوقهم إلى التحرير أو فى سعيهم إلى التعليم أو فى بحثهم عن ملاذ آمن يحميهم من الملاحقات التى يتعرض لها المناضلون. ولم تنفتح أبواب مصر للعرب وحدهم ولكنها أيضا اتسعت لأبناء العالم الإسلامى الذين كانت مدينة البعوث الإسلامية والأزهر الشريف بيتا وقبلة لهم.
مصر العفية هذه انطفأت أنوارها بالتدريج فى المرحلة الساداتية، التى شهدت انقلابا على السياسة الناصرية لاحت بوادره منذ قرر السادات أن يلتحق بالغرب وأعلن أن 99٪ من أوراق اللعبة بيد الولايات المتحدة، الذى كان بمثابة إشهار للإفلاس السياسى ورفعا لراية التسليم البيضاء.
إلى جانب ذلك فإن السادات صب جام غضبه على الفلسطينيين بعدما قتلت مجموعة فلسطينية السيد يوسف السباعى فى قبرص سنة 1978 (كنت قد أخطأت فى ذكرى التاريخ فى وقت سابق وقلت إن ذلك حدث فى عام 1987 ــ وقد تبهتى أحد القراء إلى ذلك فأشكره واعتذر). وكان السباعى من رجال السادات الذين رافقوه فى زيارته الشهيرة والمثيرة لإسرائيل. وفى رده على الواقعة فإن السادات شن حملة تشهير وانتقام من الفلسطينيين، كان من بينها معاقبة كل المقيمين منهم فى مصر، وحرمانهم من كل ما قدمته لهم القاهرة من رعاية وعون. سواء فى الإقامة أو العمل أو التعليم.
قرار الرئيس مرسى شجعنى على أن أدعوه إلى إعادة النظر فى تلك العقوبات التى أوقعها السادات بالفلسطينيين، بالأخص طلابهم الذين حرموا من المساواة مع الطلاب المصريين فى المدارس والجامعات، الأمر الذى أصبح يحملهم بأعباء مالية باهظة، خصوصا أبناء غزة الذين انقطعت مواردهم المالية بعد الحصار والاجتياح الإسرائيلى. وهو ما أدى إلى تراجع أعداء الدارسين منهم فى مصر (كانوا 20 ألفا فأصبحوا عشرة آلاف فقط) ناهيك عن أن الذين اضطروا منهم للبقاء بمصر تعرضوا لصور عديدة من البطالة الدراسية والتشرد والإذلال والإهانة، حتى أن بعضهم كانوا يطردون من لجان الامتحانات بسبب عدم دفعم للمصروفات. فى حين كانت تحجب نتائج البعض الآخر لذات السبب. وقد قيل لى إن الفلسطينيين المقيمين بالقاهرة بصدد إعداد مذكرة تدعو إلى رفع العقوبات التى فرضها عليهم السادات واستمرأها خلفه، أرجو أن تجد أذنا صاغية وقلبا مفتوحا من قيادة مصر الجديدة.
تعليقات الفيسبوك