في الأيام الماضية انشغلت، كما انشغل كثيرون بحوارات على هامش الأحداث الجارية. وسواء أكان الحوار حول «جواز تهنئة غير المسلمين بالأعياد وتلقي الهدايا منهم»، وهو ما طمأنتنا إليه دار الإفتاء، أم كان حول جريمة قتل رسامى مجلة شارلي إبدو الفرنسية، ينتهي الكلام إلى جدل حول طبيعة العلاقة التي يحددها «الإسلام الحق» لـ«المسلم الحق» بمن حوله.
يحدث هذا وفى الخلفية أصوات، يدعو بعضها لعدم إلقاء التحية على مخالفينا فى العقيدة. أما المتشدد من الأصوات فيدعو لحمل السلاح لتصفية المخالفين أو من يرى أنهم تجاوزوا فى حق معتقداتنا.
اعتدنا كثيرا أن نطمئن أنفسنا بالحديث عن السماحة كما لو كان هذا هو المفهوم السائد فى المجتمع. لكن الواقع يشى بازدياد الهوة بين ما نفترضه من انتشار مفاهيم «السماحة والاعتدال والوسطية»، وبين ما يحدث على الأرض من تغلغل لفكر الإقصاء، المتسربل بعباءة الدين، والمحتمى بتفاسير كتبت فى قرون غابرة.
المثير للاستغراب أن حواراتنا تنتهى دوما بتناطح فريقين، يتسلح كل منهما بطائفة مختلفة من النصوص والتفسيرات. واحد من الفريقين يخرج بآيات وأحاديث، تكاد تفسيراتهم لها تجعل الكراهية فرضا واجبا على كل مسلم، وتحيلنا إلى جماعة منغلقة، يتبادل أفرادها الحب والود فيمن بينهم، أما «الأغيار» فلهم القسط.. على مضض.
ويقدم الفريق المنافس صورة معاكسة، تستقى من آيات القرآن ومتون الأحاديث إسلاما مغايرا بل ومناقضا لإسلام الطائفة المنعزلة. المسلم فيها منفتح وودود ومتسامح. يقبل الاختلاف وتعدد الأفكار والعقائد. ويحقق فروض دينه بالإعمار فى الأرض، وبمد وشائج الحب والمودة مع الآخرين.
المسألة محيرة. والتصوران متناقضان فى عرضهما لعلاقتنا، كمسلمين، بالحياة والبشر والكون. لو تصادف وسمعهما غريب عن الثقافة أو الدين، سيتصور أن لدينا قرآنين ورسولين، مع أنه، حاشا لله، دين واحد ورسول واحد وقرآن واحد.
لا شك لدى فى أن الجدل حول نصوص الجهاد، أو التناحر لإثبات أن تفسيرا ما أجدر بالاعتماد من تفسير آخر، سيستمر وقتا ربما لا يقل عما مضى من قرون، استهلكت من وقت هذه الأمة، وطاقتها، وأرواح أبنائها الكثير. ولا شك لدى أيضا فى أن افتراض احتكار الحقيقة، أو محاولة إرغام الآخرين على قبول ما نعتقده، ليس إلا استمرارا للخوض فى نفس النفق المظلم.
شعاع الضوء يظهر عندما نبدأ بتحديد نقطة البداية. من نحن وماذا نريد أن نكون؟ هل ترغب فطرتنا فى التناغم مع من حولنا، وفى مد وشائج المودة مع الآخرين؟ أم تنزع فطرتنا إلى المواجهة والحرب والإقصاء؟
ما يدهش هنا هو أن من يقدمون صورة سمحة وفهما مشرقا للدين، يقابلون عادة بموجة عارمة من الشك، والرغبة فى تحدى تفسيراتهم، وتمحيص مصداقية ما يأتون به من أحاديث. وهو ما يتناقض تماما مع ما يحدث من قبول طوعى لتفسيرات الحالمين بالغزوات والسبايا والغنائم والجزية.
وهو ما جعلنى أتساءل كثيرا: هل تسلل إلى نفوسنا ومجتمعنا ما أفسد الفطرة؟ ولماذا يرى كثيرون أن التشدد والغلو هو الأقرب لصحيح الدين، فيما يصبح الشك هو رد الفعل التلقائى لمن يأتوننا من القرآن والسنة بما يؤكد أن السماحة والحب هما أصل هذا الدين ومنبعه؟
تعليقات الفيسبوك