- الدول النامية نجحت في تمرير نظام يفتح الباب لإلزام الشركات الدولية بحقوق الإنسان
- نزاع فيوليا الفرنسية مع مصر نموذج على النفوذ القانوني للشركات العالمية ضد السياسات المحلية
- مصر من أكبر خمس دول العالم توقيعا لاتفاقيات الاستثمار الثنائية
- خمسون منظمة من المجتمع المدني تطمح لإنشاء آليات يقاضي من خلالها المواطنون الشركات الدولية
كتب: محمد جاد
82 مليون يورو هو حجم التعويض الذي طالبت به شركة فيوليا الفرنسية الحكومة المصرية في قضية تحكيم دولي، مستندة فيه للحقوق التي تكفلها لها اتفاقية الاستثمار الثنائية التي وقعتها مصر مع فرنسا عام 1986.
الحقوقيون يعتبرون هذا النزاع نموذجا على ما تسهم فيه اتفاقيات الاستثمار من تقييد لقدرة الحكومات على تنفيذ سياسات لصالح شعوبها، حيث كان احد جوانب المنازعة مع الشركة الفرنسية يتعلق برغبة الحكومة المصرية في تطبيق الحد الأدنى للأجور على العاملين لديها.
وتقوم العديد من دول العالم النامي حاليا بتحدي اتفاقيات الاستثمار الثنائية وإلغائها، بينما لا تزال مصر مكبلة بـ115 اتفاقية وتعد من أكبر خمس دول في العالم من حيث عدد الاتفاقيات الموقعة.
وفي سياق انتفاضة الدول النامية ضد الاتفاقيات التي تعطي الشركات العالمية صلاحيات مغالى فيها على حساب التنمية، نجحت دول نامية في وضع النواة الأولى بالأمم المتحدة لتأسيس نظام جديد، يُلزم هذه الشركات بتطبيق حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية في البلدان العاملة بها.
ففي عام 2014 نجح عدد من الدول النامية في معركة التصويت على قرار كانت أكبر العواصم الاقتصادية تقف ضده، وهو القرار الذي يفتح مجالا لإلزام الشركات الدولية بالعمل في إطار الأهداف التنموية للاقتصادات الناشئة.
القرار يتعلق بتكوين مجموعة عمل لإنشاء آلية إلزام قانونية لتنظيم أنشطة الشركات الدولية في إطار قانون حقوق الإنسان العالمي.
ولم تكن مصر بعيدة عن هذه المعركة، إذ تقول كندة محمدية، الباحثة بمركز الجنوب، مؤسسة أسستها حكومات عدد من الدول النامية لتوحيد جهودها وخبراتها في المفاوضات الدولية، إن مصر دعمت هذا القرار الأممي.
"بالرغم من أن مصر لم تكن عضوة في مجلس حقوق الإنسان وقت التصويت على (هذا) القرار، مما لم يتح لها حق التصويت، ولكنها كانت ضمن المشجعين للدول المصوتة بالموافقة عليه"، كما تقول محمدية.
لكن هذا النشاط الدبلوماسي لمصر في أروقة الأمم المتحدة ضد نفوذ الشركات متعددة الجنسيات لم يقابله نشاط مماثل في مجال تعديل اتفاقيات الاستثمار الثنائية. بالرغم من أن العديد من الدول المؤيدة للقرار الأممي سعت خلال السنوات الأخيرة لتعديل أو الغاء هذه الاتفاقيات، لأنها تلزمها بشروط تمنعها من تطبيق الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في بلدانها.
"اتفاقيات الاستثمار الثنائية تشمل العديد من البنود التي تُعرض الحكومات للمسائلة القانونية اذا ما سعت لتطبيق سياسات محلية قد تهدف من وراءها لزيادة إيراداتها العامة أو تحقيق أهداف تنموية أو حماية المصلحة العامة (بأي شكل تراه)" كما تقول الباحثة بمركز الجنوب.
وتوضح محمدية أن الشركات الدولية استغلت "آلية فض النزاعات ما بين المستثمر والدولة (التي تكفلها لها الاتفاقيات) لتحدي الإجراءات التنظيمية للدولة في مجالات عدة، منها تنظيم القطاع البنكي بعد الأزمة الاقتصادية العالمية، وإجراءات تنظيم قطاع الأراضي، والنظم البيئية والصحية، بل وتستغلها لتحدي قرارت المحاكم العليا للبلاد".
نفوذ الشركات الدولية في مصر
وأصدر المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في إبريل الماضي تقريرا عن نشاط الشركات متعددة الجنسيات في مصر تحت عنوان "فوق الدولة" في إشارة إلى تنامي نفوذ تلك الشركات بفضل اتفاقيات الاستثمار.
وعرض التقرير حالات لشركات استغلت اتفاقيات الاستثمار للحماية من قرارات سيادية للدولة تضر مصالحها، مثل شركة إندوراما الأندونيسية التي خاضت نزاعا قضائيا ضد مصر بسبب قرار محكمة مصرية بإلغاء صفقة شرائها لشركة مصر شبين الكوم من قطاع الأعمال العام، في إطار إلغاء القضاء المصري لحزمة من صفقات الخصخصة التي رأى أنها نُفذت بطريقة غير قانونية.
كذلك استغلت شركة فيوليا الفرنسية اتفاقية الاستثمار بين البلدين لتحدي قرار الحكومة بتطبيق الحد الأدنى للأجور على العاملين لديها في إطار تعاقدها مع الدولة لتنظيف الشوارع.
كيف واجهت دول أخرى نفوذ اتفاقيات الاستثمار؟
ليست مصر وحدها التي تواجه مطالبات من الشركات الدولية بتعويضات ضخمة بسبب قرارات سيادية أصدرتها لصالح شعوبها، تتعارض مع اتفاقيات الاستثمار التي وقعتها في فترات سابقة.
وتقول محمدية إن عدد المنازعات المرفوعة أمام مركز أكسيد، التابع للبنك الدولي، وهو أحد أبرز مراكز فض النزاعات المتعلقة بالاستثمارات الدولية، زاد بشكل ملحوظ منذ 1997.
"كثرة القضايا المرفوعة ضد الدول دفع بعضها لمراجعة اتفاقيات الاستثمار الدولية التي وقعتها من قبل، سعيا لتجنب مثل هذه النزاعات"، كما توضح الباحثة بمركز الجنوب.
وسعى عدد من الدول النامية، ومن ضمنها مصر، لمراجعة اتفاقيات الاستثمار الثنائية والتي على أساسها تتحدد حقوق وواجبات المستثمر الأجنبي في البلد المضيف. لكن بعض هذه الدول سبق مصر في اتخاذ إجراءات فعلية لتعديل شروط تلك الاتفاقيات أو إلغاءها.
فوفقا لدراسة أعدها مركز الجنوب، اعتبرت الإكوادور اتفاقيات الاستثمار الثنائية التي سبق أن وقعتها غير دستورية، وسعت لتأسيس نموذج جديد توقع على أساسه الاتفاقيات بعد ذلك، يتبنى مفهوم "استثمار من أجل التنمية".
بينما لم تجدد جنوب أفريقيا الاتفاقات التي انتهى الأجل الزمني الخاص بها، وأسست نموذجا جديدا للاتفاقيات التي ستسعى إلى توقيعها بعد ذلك يقلل من المخاطر التي تعرضت لها البلاد في الاتفاقيات القديمة.
وأقرت بوليفيا في دستور عام 2009 بأن الدولة ستلغي أو تعيد التفاوض في حالة الضرورة على المعاهدات الدولية التي وقعت قبل هذا الدستور وتتعارض مع مبادئه، معتبرة أن الاستثمارات الأجنبية لديها تخضع بشكل حصري لسلطة وتشريعات وقضاء بوليفيا.
الشروط المفخخة في اتفاقيات الاستثمار
وتنظر الدول النامية التي اتخذت مواقف عملية تجاه اتفاقيات الاستثمار بأعين حريصة للمخاطر التي تنتطوي عليها التعبيرات الواردة في تلك الاتفاقيات، والتي قد تعرضها لمنازاعات دولية فيما بعد.
فالبنود الخاصة بحماية المستثمر مثلا، والمتضمنة في اتفاقيات الاستثمار الدولية تكون صياغة في كثير من الأحيان غير واضحة، "مثل معيار المعاملة العادلة والمنصفة"، والذي يرد دون شرح مفصل بما يسمح لمحاكم فض النزاعات بتوسيع تفسيره ليشمل أي سياسة قد ترى الدولة مصلحة في تطبيقها، لكن المستثمر يفسرها على انها غير منصفة له.
هذه التعبيرات الفضفاضة "تقلص من المساحة المتاحة للدولة لوضع النظم الاجتماعية والاقتصادية" كما تقول محمدية .
تشمل البنود المثيرة للجدل أيضا في تلك الاتفاقيات التعبير الخاص بـ "المصادرة غير المباشرة"، والذي يشير إلى قرارات يعتبرها المستثمرون أنواع من التأميم لأنشطتهم الاقتصادية، ولكن بطريقة غير مباشرة.
وتقول الباحثة بمركز الجنوب إن هذا التعبير يفتح الباب أيضا لإعاقة الدولة عن إجراءات قد تراها ضرورية لحماية المصلحة العامة، كأن تمنع الدولة مثلا تداول مواد مضرة ".
أحد التحديات أمام الدول النامية التي تعمل على مراجعة اتفاقياتها الثنائية، أو الانسحاب منها، هو البند الخاص بإلزام الدولة بالاستمرار في منح الحماية للمستثمر ضمن الاتفاقية، حتى بعد إلغاءها بسنوات طويلة، عادة ما تتراوح بين ١٠ و٢٠ سنة.
"تحتاج الدول الاعضاء في الاتفاقية إلى إلغاء هذا الشرط أولا، قبل الانسحاب من الاتفاقية" كما توضح محمدية.
نظام عالمي جديد لتقليم أظافر الشركات الدولية
وتتسق دول مثل الاكوادور وجنوب افريقيا تحركاتها لمراجعة اتفاقيات الاستثمار مع وقوفها في الأمم المتحدة بجانب القرار الذي يفتح الباب لإلزام الشركات بحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية، بما يرسم لوحة كبيرة لمعركة تخوضها الدول النامية حتى تحظى بموقف أقوى في مواجهة الشركات الدولية.
وفي يوليو الماضي بدأت مجموعة العمل نقاشتها بالفعل حول الآلية القانونية الجديدة التي لم تتشكل بعد، وهي النقاشات التي تراهن عليها عدة دول نامية لإجبار الشركات الدولية على تطبيق سياسات استثمارية في صالح التنمية، وليس فقط الأرباح.
مطالعة أسماء الدول المصوتة والمعارضة للقرار الأممي، الذي يسعى لوضع آلية لإلزام الشركات الدولية بالعمل في إطار الأهداف التنموية للاقتصادات الناشئة، تعكس خريطة الصراع بين الدول المتقدمة، التي تحتضن المراكز الرئيسية لأبرز الشركات العالمية، وبين الدول النامية المستقبلة لاستثمارات هذه الشركات.
فقد صوتت لصالح القرار دول صاحبة اقتصادات كبيرة مثل روسيا الصين، ودول عربية وأفريقية مثل المغرب والجزائر وكينيا وإثيوبيا، بينما صوتت ضده اقتصادات متقدمة منها الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وبريطانيا واليابان.
وتقول محمدية أن الفريق المعارض للقرار يبرر ذلك بأن الأمم المتحدة حققت إنجازا في مجال إلزام الشركات بحقوق الإنسان عبر إصدار "المباديء الاسترشادية" التي صدرت في عام ٢٠١١.
لكن هذه المباديء "غير ملزمة"، ولا تتيح للمتتضررين في حال انتهاكات الشركات لحقوق الانسان التوصل لأي تعويض ملزم.
بينما ترى الدول المؤيدة للقرار، ضرورة التكامل بين العمل على ترسيخ المباديء الاسترشادية المتفق عليها في إطار القوانين الوطنية للبلاد من جهة، والعمل على تطوير الآلية الإلزامية الجديدة من جهة أخرى" كما تضيف محمدية.
ما الذي ينتظره العالم من هذه الآلية الجديدة؟
لعبت منظمات المجتمع المدني في العديد من الدول دورا بارزا في الترويج لهذه الآلية الجديدة، وفي الضغط على الحكومات للتصويت لصالحها، كأحد الحلول لضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للشعوب في ضوء مبادئ حقوق الانسان.
وقد تشكلت حول هذا القرار الأممي حركة دولية مساندة له تحت اسم “treaty alliance movement”، وتعني حركة التحالف من أجل الاتفاقية.
وقالت الحركة في بيان لها صدر هذا العام، ووقعت عليه خمسون منظمة من المجتمع المدني، إنها تتطلع لأن تسهم مجموعة العمل المشكلة بقرار الأمم المتحدة في إنشاء آليات يقاضي من خلالها المواطنون الشركات الدولية، ليس فقط ضد الانتهاكات التي تقع في بلدانهم ولكن في البلدان الأخرى.
كما تتطلع منظمات المجتمع المدني، وفقا لهذا البيان، لأن تتم محاسبة المراكز الرئيسية للشركات الدولية على التجاوزات التي تقع في أي فرع من أفرع الشركة، وهي إصلاحات تهدف إلى خلق حركة تضامن دولية تُمكن المدافعين عن حقوق الإنسان من الملاحقة القضائية للشركات الدولية.
تعليقات الفيسبوك