"واحد رشح نفسه وهو عارف أنه هينجح وواحد رشح نفسه وهو عارف أنه مش هينجح وشعب عامل عبيط ورايح ينتخب وهو عارف مين هينجح".. بهذه الكلمات القاسية، رغم بساطتها، يلخص حسين علي خريج المعهد العالي للالكترونيات والذي يعمل ميكانيكيا، رؤيته لانتخابات الرئاسة، معتبرا أن كل ما يجري ليس سوى تمثيلية للتغطية على عملية تحويل المشير عبد الفتاح السيسي من وزير دفاع يحكم من وراء ستار إلى رئيس جمهورية يحكم بصورة مباشرة.
ورغم أن ذكر مثل هذه الآراء يضع الميكانيكي المتعلم والشاب في صف واحد مع جماعة الإخوان المسلمين التي يضيق على أعضائها الخناق هذه الأيام، إلا أن "علي" يقسم لنا، غير عابئ، بأنه ليس واحدا من هؤلاء، قائلا "أنا بكره الإخوان لكن في ظل حكم الجيش هل البلد هتطلع خطوة لقدام".
ويتساءل "علي" وهو يشير إلى صورة للمشير السيسي بزيه الرسمي في أحد البوسترات المعلقة على أحد المحال "لو أصبح السيسي رئيس هل هيحبس الناس اللي بتتظاهر ضده باعتبارهم إرهابيين؟!.. هل البلد هيبقى فيها دستور وقانون يطبق على الكل ولا هنرجع لعصر مبارك والحزب الواحد والفرد الواحد والمعتقلات".
وبحسم يليق بخريج كلية الحقوق أجبرته الظروف على العودة إلى مهنة الآباء والأجداد يتساءل محمود الشامي المحامي الذي تحول بقدرة قادر إلى سمكري سيارات في إحدى الورش التي تغص بها شوارع عين الصيرة "إزاي نثق فيه وحسني مبارك بيقول انه سيدعمه".
ويضيف "كنت في التحرير طول مدة الـ18 يوم اللي خلعنا فيهم مبارك.. مطلوب مني إزاي أدي صوتي لشخص بيأيده (مبارك)؟".
لكن أصحاب هذه الآراء، على جرأتها، ليسوا سوى أقلية بين من قابلناهم في عين الصيرة، ذلك الحي الذي بناه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في ستينيات القرن الماضي ليضاف إلى أحياء الطبقة الوسطى لكنه تحول، في عهد سلفيه أنور السادات وحسني مبارك، إلى حي أغلبيته من المهمشين والمعدمين والفقراء.
الغالبية الساحقة ممن تحدثنا معهم يؤيدون السيسي، ويسوقون لهذا التأييد أسبابا اعتاد المرء سماعها في الأشهر الأخيرة: رئيس قوي قادر على استعادة الأمن للشارع والاستقرار إلى البلاد التي يتهددها خطر"الإرهاب".
بجلباب صعيدي رث يليق برجل فقير يزحف نحو العقد السادس يطيب لعم سامي ناصر، ربما في هذه اللحظة بالتحديد، أن يعلن بكل ثقة أن السيسي هو الرئيس المقبل، الذي تنتظره البلاد، لأنه "شال كفنه على ايده وقدمه لمصر في مواجهة الإخوان".
ويعرب "ناصر"، الذي يبدو وكأنه وصل لتوه من مسقط رأسه بمركز درنكا في محافظة أسيوط، عن أمله في أن يتحول السيسي إلى زعيم ينحاز للفقراء من الشعب، مثل بلدياته عبد الناصر، مؤكدا أنه "هيكون زي عبد الناصر.. الناس كانت بتحبه عشان كده كانت معاه على الحلوة والمرة".
ومع أن كلماته يتقافز منها الأمل إلا أن الرجل يرفض تحميل السيسي فوق طاقته، متسائلا "هيعمل إيه يعني غير أنه يخلي باله من الغلابة ويحاول شوية شوية يحسن الأحوال؟".
لا شيء هنا في عين الصيرة ينبيء عن وجود معركة انتخابية محتدمة على مقعد شديد الحساسية بالنسبة لكافة المصريين، إذ تخلو كل هذه الحوائط الممتدة من ملصق واحد، سواء للسيسي أو حمدين، كما تخلو الشوارع من أي أثر للافتة دعاية انتخابية، غير أن كل هذا التهميش الانتخابي الذي يعيشه الحي لا ينفي أن قضية مصير قصر الاتحادية تشغل حيزا كبيرا من اهتمامات أهل الحي.
ورغم ثقته المطلقة في المشير، كصيد ثمين ووحيد، إلا أن عبد العاطي السروجي يعرب عن تخوفه ممن سيحيطون بالرجل حال توليه منصب الرئاسة. فالمشكلة، بحسب السروجي، عادة ما تكون "مش في شخص الرئيس لكن في الناس اللي حواليه".
وداخل عتمة كشك توزيع الخبز، الذي يغرق للمفارقة في شمس وقيظ شهر مايو، تطل علينا أم دعاء موزعة الخبز، مؤكدة أن السيسي هو الرجل المناسب لأنه "هيعدل البلد ويمشيها صح".
أم دعاء، التي تحسب أنها تجاوزت الستين رغم أن حداثة سن طفلها الصغير تشي بغير ذلك، ترفض انتخاب حمدين صباحي وتصدق الاتهامات التي يوجهها إليه بعض منتقديه بأنه كان متحالفا مع الإخوان، قائلة "حمدين مالوش موقف.. بيبقى مع ده شوية ومع ده شوية".
اسم السيسي يكاد يكون هو الخيط الناظم للطابور الطويل الذي يضم سيدات وآنسات، عجائز في خريف العمر وشابات في مقتبله، تنتظر كل منهن، بفارغ الصبر، دورها للحصول على نصيب العائلة من أرغفة الخبز الحكومي المدعم.
ووسط هذا الطابور تمثل أمنية عبد الغني استثناء، فخريجة الفلسفة التي تعمل أمينة مكتبة في إحدى المدارس خارج الحي، تعلن بوضوح أن الانتخابات ليست سوى استفتاء على السيسي الذي تحول، على حد قولها، إلى "مخلص أو نصف إله ممنوع انتقاده".
وتضيف "عبد الغني" التي يعرفها الجميع هنا باسم "رشا"، أن الناس دخلت الانتخابات بعواطفها، "المرة دي مفيش انتخابات..الناس داخلة تنتخب المخلص من آلام الإخوان".
ومع أنها تنظر لنفسها، تماما كما ينظر إليها الآخرون، على أنها خادمة الفقراء هنا في حي عين الصيرة إلا أن "رشا" تلميذة السياسي اليساري الراحل أحمد عبد الله رزه تنتقد أفكار البسطاء من أهل الحي، قائلة "الناس مش بتفكر السيسي ولا حمدين.. الناس عايزة تخلص ويحكمها رئيس قوي حتى لو عذبهم ومرمطهم وضربهم بالكرباج".
مصطفى الشحات هو استثناء آخر لقاعدة تأييد السيسي في الحي، فالشاب القادم لتوه من كفر الشيخ وتحديدا من مركز بلطيم، مسقط رأس حمدين صباحي، يعلن برباطة جأش أنه سينتخب حمدين "مش لأنه بلدياتي لكن عشان أنا بحبه وحاسس أنه هيجيب حق الفقراء.. أنا مقتنع بيه".
لكن الشحات يؤكد لنا، وهو يمسك بقطعة قماش يمسح بها طاولات الطعام المتراصة في محل الفول والطعمية الوحيد في الشارع، أن تصويته المتوقع لحمدين لا يمنعه من محبة السيسي، قائلا "بحب السيسي لكن كان نفسي يفضل وزير دفاع".
وهناك من لا يكترث بهذا المرشح أو ذاك.. أبو كريم السواق يعلن بتلقائية أنه من "حزب الكنبة" ويقول، وهو يمسح تابلوه سيارته "التاكسي" ذات الطراز الأسود والموديل الموغل في القدم، أنه لن يذهب إلى لجنة الانتخابات وسيلزم بيته كدأبه منذ عقود، قائلا "لا السيسي ولا حمدين.. مجرد ما بتقعد على الكرسي بتنسى الناس زي أعضاء مجلس الشعب ما تشفهومش غير في أيام الانتخابات".
يحل أبو كريم المشكلة باستبعاد المشكلة، قائلا "مش مهم مين فيهم اللي هيبقى رئيس.. البلد بتتسرق من 7 آلاف سنة.. والناس مش لاقية حاجة".
ويضيف وهو يغلق باب السيارة، وكأنه يغلق باب الحديث، "لا فيه أمن ولا أمان ولا أمل في أي حاجة ولا أي حد".
تعليقات الفيسبوك