كتبت: كارولين كامل
"لو مكلناش قلقاس.. هنصبح من غير راس".. هذه هي الجملة الشهيرة المرتبطة بعيد "الغطاس" الذي يحتفل به المسيحيون غداً الأربعاء، والذي يرمز لمعمودية المسيح في نهر الأردن، وترتبط بهذه المناسبة طقوس اجتماعية خاصة بأقباط مصر أهمها تناول أطعمة معينة، حينما يرجعون إلى منازلهم بعد منتصف الليل عقب انتهاء قداس "ليلة الغطاس" ليأكلوا القلقاس الساخن، و"يمصون" القصب في نهار اليوم التالي.
كما تشهد بعض المناطق في ريف مصر طقسا خاصا آخر وهو صناعة "فانوس" من البرتقال "أبو سُره" يشعله الأطفال أثناء ذهابهم للصلاة في الكنيسة ليلاً.
على باب الكنيسة
اعتاد بائعو القصب الوقوف أمام الكنائس لبيع القصب على مدار ثلاثة أيام تبدأ من الليلة التي تسبق ليلة الغطاس وليلة العيد وصبيحة العيد، "إحنا اتعودنا نفرش القصب قدام الكنيسة.. والأقباط ينزلوا يشتروا.. لكن دي أول مرة الأمن يطلب مننا مانقفش قدامها عشان الحراسة الخاصة بالقداس النهارده.. فجينا وقفنا هنا"، هكذا يتحدث وهيب سمعان وهو يضع، بمساعدة شقيقه وأسرتيهما، أمامه كميات من القصب في زقاق ضيق خلف كنيسة مارجرس بالمحلة، في انتظار الزبائن قبل بدء صلاة قداس ليلة عيد الغطاس بساعات قليلة.
قطرات المطر على سيقان القصب
"احنا مش فلاحين ومعندناش غيط.. لكن ده موسم القصب بالنسبة لنا.. بنروح نشتري محصول الغيط بحاله.. وبنعمل كل حاجة بنفسنا نقلعه من الأرض ونحمله على العربيات ونجيبه هنا نقطعه ونبيعه.. بس النهارده خلاص آخر يوم.. والناس هتشتري وهي خارجة من القداس بالليل" يقول إيميل سمعان موضحاً أن ما يقوم به برفقه أخيه من بيع القصب كل عام هو عادة توارثاها من أبيهما وأجدادهما، بينما تنهمر قطرات المطر تبلل سيقان القصب فتزيده لمعانا.
من المحلة إلى طنطا
لا يُزرع القصب في المحلة ولذلك يضطر وهيب وأخوه وأولادهما للسفر للمنوفية أو أرياف "طنط الجزيرة" وكفر ششتا وكلها قرى محيطة بالمحلة لإحضار القصب، "الناس بتقول طوبة يخلي الشابة كركوبة.. لكن إحنا بننزل الغيط في عز البرد والمطرة نقطع القصب.. ولما بنيجي هنا ننضفه ونقطعه عُقل.. وكمان بقينا بنعمل ديلفري للبيوت.. وفي الآخر الناس تفاصلنا في نص جنيه".. يروي أبانوب وهيب سمعان عن رحلة وصول القصب من الحقول لمنازل الزبائن.
ويؤكد شقيقه إيميل أن هامش الربح من بيع القصب يكاد يكون غير ملموس، مشيراً إلى أنه يستدين مقدماً ثمن شراء حقل القصب ويتحمل مصاريف النقل، ويقول "يعني القصب أصلا معدش موجود.. والناس يادوب بتشوفه في الغطاس.. لكن برضو الفصال على نص جنيه وجنيه.. بس هنعمل إيه اخدناها عادة.. وكتير مش بنكسب ولا مليم من البيعة كلها".
القصة الشعبية
ترتبط بعض الأعياد والمناسبات الإسلامية والمسيحية بتناول أطعمة بذاتها، ليس في مصر فقط وإنما في العالم أجمع، كما ارتبطت مناسبات شعبية بأطعمة خاصة بشعوبها ذات دلالات تراثية، ولأن شهر "طوبة" هو موسم هذه الفاكهة والخضروات فكان من الطبيعي أن يتناولها المصري عامة منذ القدم وليس المسيحي بصورة خاصة، إلا أن القصة الشعبية المصبوغة دينيا والتي يتداولها المسيحيون مؤثرة وغنية وذات طابع حميمي.
أبيض كالمسيح
"بناكل قلقاس لأن قلبه أبيض وده بيرمز للمسيح.. وبنعمله شوربة عشان ده عيد الغطاس اللي نزل فيه المسيح نهر الأردن".. تبتسم صفاء زوجة وهيب سمعان بخجل وهي تروي المعلومة التي روتها لها جدتها وأمها، وترويها هي بدورها لأطفالها.
تقاطعها سعاد زوجة إيميل لتُكمل قصة القصب "والقصب كمان بناكله لأن قلبه أبيض وكله عسل.. ده برضو المسيح.. ما هو أي فاكهة أو خضار قلبها أبيض بترمز للمسيح.. بس عشان ده الموسم بتاع القلقاس والقصب.. وكمان القلقاس أكله شتوي.. بيدفي يعني"، هكذا يتبادل الجميع الحكي والتأكيد على صحة المعلومات التي توارثوها من أسرهم وهم صغار.
الفانوس البرتقال
ليست الأطعمة وحدها ما يميز عيد الغطاس عند مسيحيي مصر، ولكن يحتل الفانوس المصنوع من البرتقال "أبو سُره" أو "اليوسفي" مكانا لدي أقباط المناطق الريفية، حيث يحمل الأطفال فوانيس البرتقال ليلاً للذهاب للكنيسة وتنتشر رائحة البرتقال في أرجاء الكنائس.
الفانوس عبارة عن برتقالة مفرغة بداخلها شمعة، حيث يتم قطع الغطاء من جهة وتفريغ محتويات البرتقالة دون خدشها، ثم يتم حفر عدد من الصلبان على الجدار الخارجي، ووضع شمعة ثم ربط الغطاء بالبرتقالة مرة أخري من خلال سلك رفيع يستخدم أيضاً كحامل للإمساك بالفانوس.
"البرتقان بقى بيرمز لزيت الميرون اللي بيرشوا بيه الطفل بعد المعمودية.. وكانت ريحته حلوة.. والريحة دي مش بتبان غير لما بيتحرق بالشمعة.. وده اللي المسيحي لازم يفهمه.. إن الشدة لازم تخرج أحسن ما فيه" هذا ما ترويه صفاء زوجة وهيب سمعان، مؤكدة أنها تُصر علي نقل الرواية لأبنائها لما فيها من التحمل والجلد والتشبه بحياة المسيح.
هكذا وجدنا آباءنا يفعلون
ويوضح عدد من الشباب المسيحي من أبناء المحلة أنهم اعتادوا رؤية آبائهم يصنعون هذه الفوانيس إلا أنهم لم يقدموا أبدا على تجربتها، حسب ما تحكي كريستين فايق عن والدها الذي توفي من سنوات "بابا الله يرحمه هو اللي كان بيعمله لنا.. وبصراحة أنا مفكرتش أجرب.. رغم أني بحب الفانوس البرتقانة وبحس أن الغطاس ميبقاش حلو من غيره".
البرتقال قبل الكهرباء والبنزين
يؤكد مرقص عبد المسيح أن عادة فانوس البرتقال ذات علاقة وثيقة بتراث المصريين منذ القدم، حيث اعتاد المصري استخدام المشاعل للخروج ليلاً قبل الكهرباء والبنزين، ولجأ المصري القديم للطبيعة لتساعده على ابتكار مشاعل لا تنطفئ فكان اللجوء إلى البرتقال كأبرز ثمار هذا التوقيت من العام حيث يضع المصريون فيها فتيلا من الكتان ويشعلونها فتبقى مشتعلة رغم المطر لأطول فترة ممكنة.
تعليقات الفيسبوك