كتبت: مي قابيل
نجحت الإجراءات التي اتخذها البنك المركزي في توجيه ضربات فعالة للسوق السوداء على مدار أكثر من شهر، واستقر سعر الدولار عند 7.53 جنيه في المزاد الذي أجراه البنك اليوم، إلا أن هدف القضاء على السوق الموازية للعملة، الذي يتبناه المركزي، يبدو بعيدا عن التحقق بدون معالجة اختلالات أساسية في الاقتصاد، لم يتم الإعلان عن مواجهتها حتى الآن.
واتخذ المركزي إجراءات متتالية لتحقيق هدفه، بعد سماحه للعملة المحلية بالتراجع أمام الدولار، من مستوى 7.14 جنيه خلال النصف الأول من يناير الماضي، ليستقر السعر الرسمى عند 7.53 جنيه في الأسابيع الثلاث الماضية. وخلال تلك الفترة سمح قائد القطاع المصرفي للبنوك بتوسيع هامش بيع وشراء الدولار ليصل إلى عشرة قروش، بدلا من ثلاثة قروش في السابق.
وكان فرض حد أقصى للإيداع النقدي بالدولار في البنوك من بين الإجراءات التي تم استحداثها لمحاصرة السوق السوداء، بالإضافة لعودة المركزي لبيع الدولارات للبنوك عبر آلية الإنتربنك، بجانب المزادات التي تعقد عادة أربع مرات أسبوعيا.
الطلب.. مربط الفرس
إجراءات محاصرة السوق السوداء مهمة، لكنها لا تكفى لتخفيف الضغط على الجنيه بحيث يصبح القضاء على هذه السوق ممكنا، كما يرى جودة عبد الخالق أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة ووزير التضامن الاجتماعي الأسبق، "فلو جاءني شخص يعاني من ارتفاع درجة حرارة جسمه، وأعطيته خافضا للحرارة دون أن أعالج سبب ارتفاعها، ستنخفض مؤقتا وتعود مرة أخرى للصعود".
ويرتبط وجود السوق غير الرسمية للعملة بالمضاربات، كما يؤكد عبد الخالق، "ولكن لماذا توجد مضاربات؟ هناك عوامل مرتبطة بهيكل الاقتصاد نفسه، وهي متراكمة منذ سنوات، نتيجة اختلال في العلاقة بين العرض الكلي للسلع والخدمات في الاقتصاد وبين الطلب عليها".
ويؤدي هذا الخلل إلى اعتماد مصر على الخارج في تلبية الطلب المتزايد، نتيجة لقصور في الطاقة الانتاجية من جانب، وفي إدارة القطاع المصرفي من جانب آخر، بحسب تفسير عبد الخالق.
وبلغت قيمة ما تستورده مصر من سلع 58 مليار دولار في العام المالي الماضي، مقابل حصيلة صادرات لم تتجاوز 26 مليار دولار، أي أن الإنتاج المصري الذي يتم تصديره للخارج لا يغطي أكثر من 44% مما يتم استيراده من العالم.
"نحن نستورد سلعا بحوالي 58 مليار دولار، لو قلصناها بنسبة 10% بالاستغناء عن الواردات غير الضرورية، سنوفر 5.8 مليار دولار، وهذا أفضل من القروض التي نبحث عنها هنا وهناك"، كما يقول عبد الخالق.
وتتجه البنوك بشكل متزايد في السنوات الأخيرة إلى التوسع في تقديم تمويل يعزز الطلب الاستهلاكي، بما يساهم في زيادة الخلل المشار إليه بين العرض والطلب كما يوضح عبد الخالق، حيث يتزايد اعتماد البنوك على التجزئة المصرفية، المتمثلة في القروض الشخصية، وقروض السيارات والسفر، والبطاقات الائتمانية، وهي قروض ربحيتها أعلى بالنسبة للبنوك، "ولكن البنك المركزي لا يضع ضوابط أو سقف لها، رغم أن هذا من حقه، كما لا يهتم بتقديم حوافز للبنوك لتُقبل على القروض الإنتاجية بدرجة أكبر".
نجاح في المدى القصير
يعتبر بنك استثمار "المجموعة المالية هيرمس" أن إجراءات البنك المركزي سوف تنجح على المدى القصير في توجيه مزيد من السيولة للقنوات الرسمية، "وهي خطوة إيجابية في حد ذاتها، بالنظر إلى حجم السيولة المتداولة خارج الجهاز المصرفي، والتي تقدر بما بين 20 إلى 30%"، وبالتالي ستنجح في تقييد السوق السوداء، بحسب ما جاء في تقرير للبنك في نهاية يناير الماضي.
ولكن على المدى الطويل يحتاج الاقتصاد لتوليد المزيد من العملة الصعبة، خاصة في ظل محدودية قدرة المركزي على المناورة في مواجهة أي ظرف طارئ، كما يقول تقرير هيرمس، باحتياطي نقدي لا يغطي أكثر من 3.2 أشهر من الواردات، "وبدون التحسن في الاتجاهات الأساسية لميزان المدفوعات.. فمن الصعب أن نرى قضاءً كاملاً على السوق السوداء خلال الشهور القادمة".
وقد تراجعت احتياطيات النقد الأجنبي لدى الدولة لتصل إلى 15.4 مليار دولار في فبراير الماضي، هو مبلغ يغطى واردات مصر لثلاثة أشهر فقط، وهو معرض للتآكل في رأي عدد من الاقتصاديين، إذا لم تتخذ مصر إجراءات جادة لكبح الواردات، وإعطاء دفعة للإنتاج والتصدير، واستعادة الأمن الذي يعد شرطا اساسيا لعودة حركة السياحة، التي ساهم تراجعها الحاد في زيادة الأزمة.
ويرى مصدر في أحد البنوك التجارية، فضل عدم نشر اسمه، أن الإجراءات التي يتخذها المركزي لتقليص الطلب على الدولار في السوق السوداء "خطوة مهمة وضرورية.. وتأخرت كثيراً"، إلا أنها "غير كافية للقضاء على تلك السوق في نهاية الأمر".
ويعتمد المركزي على تلك الإجراءات في تحقيق توازن في سوق العملة لحين انعقاد القمة الاقتصادية، المزمع إقامتها في منتصف الشهر الجاري في شرم الشيخ، والتي تعول عليها الحكومة كثيرا لجذب الاستثمارت العربية والأجنبية، كما يقول المصدر البنكي، معتقدا أن هناك مؤشرات على أن الحكومة بالفعل اتفقت مع عدد من الجهات بشكل مبدئي على استثمارات، وبالتالي "لديها ما يغطيها من النقد الأجنبي لمدة عشرة شهور أو سنة".
تحسن السيولة
تحسنت السيولة المتاحة من العملة الأمريكية داخل البنوك، بحسب ما أكده هشام رامز، محافظ البنك المركزي، في تصريح لأحد البرامج التلفزيونية منذ بضعة أيام، موضحا أن حصيلة الدولار ارتفعت ما بين 6 أضعاف فى بعض البنوك و10 أضعاف فى بنوك أخرى عقب تطبيق قرار سقف الإيداع البنكي من الدولار، وأن المبالغ الواردة للجهاز المصرفي قد زادت عن المعدل المعتاد بـ 1.3 مليار دولار خلال أسبوع واحد.
وارتفاع السيولة كان نتيجة إقبال المتعاملين على بيع الدولار للبنوك بعد أن تراجع سعره في السوق السوداء، فلم يعد هناك حافز للتوجه لتلك السوق، كما يوضح محمد أبو باشا، محلل اقتصادي في المجموعة المالية هيرمس، معتبرا أن مستوى التحسن الذي أعلن عنه محافظ المركزي جاء "أسرع من توقعاتنا".
واستقر سعر الدولار في البنوك عند 7.63 جنيها في الأسابيع الأخيرة، مستفيدة من هامش العشرة قروش الذي سمح به المركزي، بينما انخفض سعر العملة الأمريكية من حوالي 8 جنيهات قبل تطبيق إجراءات المركزي، إلى ما بين 7.65 و7.70 في السوق السوداء، بفارق لا يزيد على 5 قروش عن البنوك.
ولكن تبقى هناك عوامل ضاغطة تمنع القضاء على السوق السوداء، فرغم التحسن النسبي في أداء الاقتصاد، خاصة في السياحة والتصدير، إلا أن موارد مصر من الدولار مازالت غير كافية لمواجهة الطلب، كما أن النمو الاقتصادي الذي تستهدفه الحكومة يعنى بالضرورة زيادة في الطلب على العملة الاجنبية، كما يقول أبو باشا.
وتعول الدولة على المؤتمر الاقتصادي لجذب الاستثمارات الأجنبية، لكن دخول هذه الاستثمارات فعليا سيتطلب وقتا، لذلك فهناك ضرورة لتوفير موارد أخرى للعملة الصعبة، بحسب أبو باشا، سواء من خلال المساعدات أو القروض الدولية أو عبر السندات الدولارية.
ضرورة الحد الأقصى للإيداع
قرار فرض حد أقصى للإيداع النقدي بالدولار في البنوك عند عشرة آلاف دولار يوميا للأفراد والشركات وبإجمالي 50 ألف دولار شهريا، كان من أهم الاجراءات التي اتخذها البنك المركزي وساهمت في إضعاف السوق السوداء.
ويقول جودة عبد الخالق إن وضع سقف للإيداع النقدي بالدولار قرار صائب، وهو الأصل في الأشياء كما يحدث في الدول الرأسمالية الكبرى، فلا يجوز أن يقوم الشخص بإيداع مبالغ كبيرة من المال نقدا دون أن يكون قادرا على إثبات مصدرها، لأن هذا يفتح الباب لغسيل الأموال، بينما تتم المعاملات المالية الكبيرة، سواء بالعملة المحلية أو بالعملات الأجنبية في تلك البلاد، من خلال التحويلات البنكية.
ويسعى المتعاملون في السوق السوداء للعملة إلى إضفاء الشرعية على الأموال التي حصدوها من تجارتهم غير المشروعة فيودعونها في البنوك، وهو الطريق الذي تم تضييقه عليهم بهذا الإجراء، كما يرى عبد الخالق.
بينما يوضح المصدر البنكي أن البنك في العادة كان يقول للعميل إنه لا توجد دولارات لطلبات الاستيراد الخاصة به، وإن هناك أولويات للسلع في الحصول على العملة الأجنبية، فيذهب العميل للشراء من السوق السوداء ثم يودع تلك الأموال في البنك لكي يفتح له اعتماد مستندي، (هو تعهد يصدره البنك بناء على طلب أحد عملائه المستوردين، يتعهد فيه بدفع مبلغ لصالح المورد).
"قرار المركزي أغلق الباب أمام العميل لشراء احتياجاته من السوق السوداء، أصبح مضطرا لانتظار دوره في طلبات البنك. ولأن السيولة الدولارية آخذة في التحسن، فالطابور الذي يقف فيه التاجر لينتظر دوره في الحصول على الدولارات سوف يقل"، كما يقول المصدر البنكي.
بينما يرى جودة عبد الخالق أنه من المفترض في الوضع الحالي أن يقول البنك للمستورد لن أفتح لك اعتمادا مستنديا لأن هناك أولويات ولا توجد دولارات كافية لاستيراد سلع غير ضرورية، ويكون هذا من ضمن توجيهات البنك المركزي في فترات الأزمات، "لكن هذا لا يحدث لأنهم لا يريدون أن يغضبوا المستوردين".
ويحدد البنك المركزي قائمة بالسلع التي تحظى بأولوية في توفير العملة الصعبة لاستيرادها، تشمل السلع الغذائية والمواد البترولية وقطع الغيار والمواد الخام والأدوية.
تعليقات الفيسبوك