يمضي أحمد ساعات النهار جالسا في ميدان التحرير، ويدق بين الحين والآخر على صندوقه الخشبي ليجذب انتباه المارة عسى أن يتوقفوا ويضعوا أحذيتهم على صندوقه لتلميعها مقابل جنيهات قليلة.. بعض "الزبائن" لا يحتاجون إلى تنبيه ويأتون دون دعوة لتلميع أحذيتهم والانصراف دون مقابل لأنهم من أفراد شرطة الميدان.. أحذيتهم تلمع وعيون أحمد تلمع أيضا لكن بدموع مختنقة وآمال مكبوتة.
بعد خمس سنوات من ثورة يناير 2011 التي انسحبت خلالها قوات الشرطة أمام ضراوة الاحتجاجات، استعادت وزارة الداخلية قوتها، وعادت أيضا الشكاوى من الانتهاكات الحقوقية.
وفي محاولة لرسم صورة جديدة للوزارة، بادر أفراد من الشرطة بتوزيع الورود على المارة في ميدان التحرير عشية الثورة التي اندلعت يوم عيد الشرطة.
وعلى مقربة من حلقات توزيع الورود والابتسامات على الأهالي، كان أحمد (اسم مستعار) يلمع صامتا حذاء أحد أفراد الشرطة، ويحاول قدر جهده أن يبدو لطيفا حبوبا رغم علمه أن "الزبون" سينصرف دون أن يدفع مليما واحدا.
ويقول أحمد (35 عاما) وهو رب أسرة مكونة من زوجة وطفلين "لو قلت له حاسبني.. ها ياخدني وياخد الصندوق."
ووثقت "أصوات مصرية" بالصوت والصورة -خلال جولة في ميدان التحرير- شهادات لباعة وأرزقية تتضمن شكوى من معاملة الشرطة. وانسابت الحركة المرورية وسط تواجد أمني مكثف في الميدان، في حين تجمع بضع عشرات حيث كانت تقام المنصة الرئيسية أيام الثورة ورددوا أغاني وطنية وهتافات مؤيدة للجيش والشرطة.
وبأصابعه الملطخة بالأصباغ، يشير أحمد إلى الميدان الذي كثفت الشرطة انتشارها فيه قبل أيام من ذكرى الثورة، ويقول "وضع الشرطة بقا أسوأ في الخمس سنين اللي فاتوا."
ونفى مصدر أمني بوزارة الداخلية صحة الواقعة التي يتحدث عنها ماسح الأحذية، وقال إنه إذا صح وقوع مثل هذه التصرفات من أفراد الشرطة فإنها تكون تصرفات فردية ولا يمكن التحكم فيها إلا إذا تم تحرير محضر من ماسح الأحذية ضد فرد الشرطة.
وأضاف أن وجود الباعة الجائلين في منطقة وسط البلد هو اختراق للقانون، وأن المحافظة قامت بتخصيص أماكن لهم بموقف الترجمان، وأن شرطة المرافق تقوم بتنفيذ القانون لقيام بعض الباعة الجائلين بالاستيلاء على نهر الطريق.
وأحيل عدد من أفراد الشرطة إلى المحاكمة الجنائية خلال الشهور الماضية وصدرت ضدهم أحكام بالسجن بسبب تجاوزات بحق مواطنين، من بينها واقعة وفاة مواطن بالأقصر بسبب ضرب أفضى إلى الموت وحبس على إثرها 4 ضباط و5 أمناء شرطة، وكذلك إحالة ضابط إلى الجنايات في واقعة وفاة طبيب بيطري بالإسماعيلية، وأيضا السجن المشدد لضابط بقسم شرطة الصف بالجيزة و5 من المخبرين المعاونين له لاتهامهم بقتل مواطن عمدا وحيازة أسلحة ومخدرات دون وجه حق، وسجن ضابط آخر 5 سنوات بالبحيرة بتهمة ضرب متهم داخل قسم شرطة رشيد، والسجن المؤبد لضابط مباحث وأمين شرطة في طنطا بالغربية بتهمة تعذيب سجين حتى الموت وصعق آخر بالكهرباء.
وخلال الأسابيع السابقة على ذكرى 25 يناير، كثفت الشرطة حملاتها الأمنية في محيط ميدان التحرير. وفتشت الشقق المفروشة، وداهمت المقاهي ومراكز ثقافية، وحثت أصحاب المقاهي على تركيب كاميرات مراقبة، واعتقلت نشطاء، وفتشت حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، ونشرت تعزيزات أمنية.
ورصد مركز النديم للعلاج والتأهيل النفسي لضحايا العنف والتعذيب -في تقرير سنوي صدر الشهر الجاري- انتهاكات الشرطة خلال العام الماضي باستثناء الاعتقالات العشوائية.
وشمل التقرير حالات الوفاة والتعذيب وسوء المعاملة وأماكن الاحتجاز والاختفاء القسري والإهمال الطبي.
وما خلص إليه التقرير يؤكد أن أحمد لديه سبب واضح للابتعاد عن الاحتكاك بأفراد الشرطة.
فالتقرير يقول إن عدد الوفيات في إطار الاحتكاك بالأجهزة الأمنية بلغ 474 حالة وفاة، منها 328 حالة خارج أماكن الاحتجاز، و137 حالة في أماكن الاحتجاز، وحالات مختلف عليها، لكنهم لقوا مصرعهم على أية حال بعد إحالتهم للمحكمة الجنائية كهاربين.
ويشير التقرير إلى أن أسباب الوفاة خارج أماكن الاحتجاز كانت نتيجة مشادات كلامية مع رجال الأمن ودهس بالسيارات وإطلاق رصاص في مطاردات وعلى مسيرات وتصفية أشخاص وتزاحم واختناق وقصف بقذائف.
* لا للثورات
يجمع أحمد من مهنته كماسح أحذية نحو 60 جنيها يوميا. ومع استبعاد أيام العطلات التي تقل فيها حركة الموظفين وغيرهم من المارة في ميدان التحرير، يمكن أن يصل دخله الشهري إلى حوالي 1500 جنيه يدفع نصفها إيجارا لشقته الصغيرة، ويكافح مع زوجته لتدبير أمور حياة الأسرة بالمبلغ المتبقي.
"عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية".. كان شعار ثورة يناير. لكن أحمد لا يتمنى اندلاع ثورة أخرى. وهو يرى أن النتيجة لن تكون سوى بطش الأمن بهم وتعذيب المواطنين.
ويذكر تقرير مركز النديم أن حالات سوء المعاملة والتعذيب خلال عام 2015 بلغت 700 حالة، منها 640 حالة تعذيب فردي، و36 حالة تعذيب جماعي و24 حالة تكدير جماعي.
ويشير التقرير إلى أن أقسام الشرطة اختصت بالعدد الأكبر من حالات التعذيب وبلغ 267 حالة، يليها السجون 241حالة، ثم الأمن الوطني 97 حالة.
* اختفاء قسري
ويشير التقرير أيضا إلى ظاهرة اختفاء الشباب قسريا، ويقول إن عدد المختفين قسريا خلال العام الماضي بلغ 464 حالة، منهم 139 حالة اختطفوا من منازلهم و25 اختطفوا من عملهم بواسطة رجال أمن في ملابس مدنية ورسمية بدون أوامر إحضار، في حين اختطف الباقون من الشارع أو محطات المترو، وأكثر من شخص تم اختطافه من المطار، علاوة على اختفاء 4 أشخاص من محبسهم و21 آخرين بعد صدور حكم بإخلاء سبيلهم.
وقال المصدر الأمني بوزارة الداخلية إن الوزارة تفحص جميع الشكاوى والتقارير التي تخرج بها منظمات حقوق الإنسان حول حالات التعذيب والوفاة والاختفاء القسري.
وأضاف أن أقارب المتهمين يحاولون إثارة الفوضى خاصة في ذكري ثورة ٢٥ يناير في محاوله لإثارة الرأي العام، وإذا ثبتت حالة تعذيب في السجون يتحرر محضر ويتم التحقيق فيه.
ونفى المصدر وجود حالات تعذيب أو وفيات بالعدد الذي كشف عنه مركز النديم ولا يوجد اختفاء قسري.
وأوضح أن المجلس القومي لحقوق الإنسان أحال إلى وزارة الداخلية 191 شكوى خلال الفترة الماضية، وقامت الوزارة بالرد على المجلس باجمالى 118 ردا.
واستطاعت لجنة المجلس بالوزارة -من خلال التواصل مع مقدمي الشكاوى- التعرف على مصير ثلاث حالات ليصبح إجمالى من تم التعرف على مصيره من الحالات المبلغة للمجلس 121 حالة.
وأنهى المصدر تصريحاته بأن الوزارة تقوم بالنظر في تقرير مركز النديم والتأكد من صحته.
ويكتسي وجه أحمد بنظرة حائرة متسائلة حين يسمع عن المختفين قسريا. ويقول وهو يدق على صندوقه كأنما يفرغ طاقة مكبوتة "يسيبوني اشتغل أو يوفروا لي شغلانة ولو غلطت يحاسبوني."
ومع دقات متناغمة على الصندوق، يردد أحمد هامسا مقاطع من أغاني الثورة التي كان يهتف بها في الميدان قبل خمس سنوات.
تعليقات الفيسبوك