تسعون يوما فقط احتاجتها بطلة رواية (باق من الزمن 90 يوما) لتحرر من القيود الاجتماعية وتمتلك من الوعي حدا أدنى يجعها تدرك أنها ليست شيئا بل ذاتا من حقها أن تكون كما تريد لا كما يريد لها آخرون هم عائلتها وزملاؤها وخطيبها الذي لا يفهم معنى أن يكون للفتاة استقلالها.
وفي التعبير عن هذا المعنى لا تميل الكاتبة المصرية منى محب مؤلفة الرواية إلى إطلاق شعارات نمطية عن حرية المرأة بل تسعفها لغة ناعمة تشي ولا تصرخ وتهمس ولا تصرح عبر تسعين يوما حددتها بطلة الرواية للانتهاء من تحضيرات الزفاف منها وضع لمسات أخيرة لبيت الزوجية وثوب الزفاف.
وفي الصفحة الأولى تستعرض "نور" التي بلغت 29 عاما أشياءها المحببة إذ "أعشق كل الزهور البيضاء" ولكنها في السطور الأخيرة من الرواية لا تبالي بباقة ورد أتى بها خطيبها الذي أغضبها واستهان بها وظن أنها يمكن أن ترضى بالتصالح -مثل سابق عهدهما- بباقة ورد متنازلة عن "هول فكرة" اكتشاف ذاتها المتمردة.
وفي هذه اللحظة أدركت "نور" قدرتها على التمرد على ما يمكن اعتباره إذلالا من مرض السكري الذي أصيبت به قبل تسع سنوات وتقرر أن تختار حياتها وتعلن "أنا كما أنا. أنا كما كنت. أنا كما أريد أن أكون".
ولا تخلو الرواية من بعض هنات العمل الأول لكثير من الكتاب وهي هنا قليلة ومنها الوقوع في فخ استسهال تعبيرات شائعة مثل "أستشيط غضبا" وانتقال السرد من الفعل المضارع إلى الماضي إلى المضارع على الرغم من تسلسل الأحداث عبر 90 يوما والانتقال أيضا من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب ثم إلى ضمير المتكلم.
والرواية التي تبلغ 105 صفحات صغيرة القطع أصدرتها (الكتب خان للنشر والتوزيع) في القاهرة وهي ثمرة (ورشة الرواية الأولى للكتابة الإبداعية) التي تتبناها المكتبة. وكانت الثمرة الأولى لهذه الورشة رواية (كوكب عنبر) للكاتب المصري محمد ربيع والتي أصدرتها (الكتب خان) ونالت جائزة ساويرس الثقافية لشباب الأدباء لعام 2011 في مصر.
ولعل منى محب تؤمن بمقولة أن يكتب الكاتب ما يعرف وهنا تعرف بطلة الرواية "نور" تفاصيل عالم محدود هو دنيا البنات والنساء وتفاصيل وترتيبات تخص الزواج ولكنها تعرفه بدقة تسمح لها على سبيل المثال بابتكار ثوب للزفاف متخيل يشغل صفحة كاملة في الرواية كأن القارئ يراه وهو وصف لفظي من بطلة الرواية التي تطلب إلى صديقتها "مريم" أن ترسم لها هذا الوصف.
وتمرد بطلة الرواية ليس مفاجئا ولكنه صعود متدرج في اكتشاف الآخرين ومدى تقديرهم لذات البطلة التي تعيد اكتشاف قدراتها وتؤمن في اللحظة الأخيرة بأنها ينبغي ألا تكون إلا نفسها..
فالفتاة التي أصيبت بمرض السكري ترصد بما يشبه الحياد جانبا من ضحايا هذا المرض وهي في غرفة انتظار دورها في مقابلة الطبيب وتعلم أن مخاطر أو مضاعفات أو كوابيس في انتظارها ولكنها تقبل على الحياة وتستعد للزفاف وهي خالية الذهن لا تعيد النظر فيما حولها "أشعر بأني مسطحة مجردة من كل المعاني. أذهب إلى أعماق أعماقي وأشعر أني أطير في فضاء رمادي اللون يخلو من كل ألوان الطيف. لا ليل ولا نهار. لا سماء ولا بحر. فقط أرض جرداء وضباب محكم..."
ويبدأ التمرد قبل 70 يوما على الموعد المقرر للزفاف بفكرة عدم التصالح مع المرض الذي يجعلها مختلفة عن غيرها إذ "ليس من العدل أن يسلب مرضي أبسط حقوق جسدي في أن يغفو فجأة دون مقدمات... يجب أن يكون جسدي وعقلي باستمرار في وضع الانتباه. كل خطوة محسوبة" بما في ذلك نوع الطعام وكميته وقدر المجهود.
ثم تمتد فكرة التمرد من طرح أسئلة حول آثار المرض إلى علاقتها بخطيبها "شريف" غير المبالي.. وقبل 55 يوما على موعد الزفاف تعترف نور لمريم بأنها تخاف وتشعر بأنها صغيرة لم تنضح بعد إذ مضى أكثر من شهر وهي ترتب ليوم واحد فقط هو يوم الزفاف ولا تعرف لمن توكل إليه بقية حياتها ليتولى ترتيبها لها "عايزة حد يرتبني. يحط لي كل حتة في مكانها."
وتخلو فصول الرواية من العناوين ولكن الفصل الذي يتناول ما قبل 40 يوما على الموعد المقرر للزفاف يحمل عنوان (ملء الحياة) وفيه تقرر نور أن "تتفرج على الحاجات اللي تشبه الحياة" فتلبس حذاء لاعبة باليه وقميصا عاري الأكمام تمهيدا للذهاب إلى مهرجان للبهجة يرسم فيه على وجوه الأطفال ويرسم الكبار والصغار على الاسفلت بالطباشير.. ولكن خطيبها يرفض الاستيقاظ من النوم فتذهب وحدها.
وفي خطوة تمرد تالية يأتي فصل (لن أحسب اليوم شيئا) وترفض فيه الراوية أن تتذكر كم بقي على موعد الزفاف أو الخضوع لأي عمليات حسابية تشمل السكريات أو السعرات الحرارية التي يجب ألا تتناول الكثير منها إذ "اليوم سوف أعيش كما أحب أن أعيش.. من غير حساب" ثم ترفض غواية فنان تشكيلي وهي تتساءل إلى من تنتمي؟ وماذا تريد؟.
وفي الصفحة الأخيرة التي تحمل عنوان (باق من الزمن صفر) تقرر أن تعيش حياتها كما تشاء وتتصل بمنظم لرحلة خلوية لتأكيد حجز إذ "باق من الزمن صفر. باق من الزمن عمري كله".
تعليقات الفيسبوك