كتب: سيف الدين حمدان
"الكارو والمرسيدس.. حداثة لم تكتمل" .. العنوان قد يشي بشيء من مضمون الكتاب ولكنه خادع من حيث أنه لا يعقد مقارنات بين غني وفقير أو سيارة مرسيدس وعربة بدائية تجرها البهائم (الكارو) ولكنه يصف تجاور حالتين اجتماعيتين- محدثة مجلوبة من الخارج وتقليدية بدائية.
الكتاب للباحثة الدكتورة هبة شريف صدر قبل نحو شهرين يحاول تتبع مسيرة التحديث الرسمية المصرية والنتائج الواقعية لعملية التحديث هذه على الأرض مع التركيز الشديد على المشهد الثقافي في مصر.
تقول الكاتبة في مقدمة الكتاب إن المجتمع في مصر لم يصبح مجتمعا حديثا تماما رغم أن به العديد من الناس الذي يتحدثون اللغات الأجنبية ويقودون السيارات ويجيدون التعامل مع كل مكتسبات المجتمعات الحديثة.. "مجتمع ما زال لم يتخط تماما طور المجتمعات التقليدية.. مجتمع مهجن بين الحديث والقديم.. أو هو حديث "حداثة منقوصة" لم تكتمل كل أركانها بعد."
هذه هي الفكرة الرئيسية في هذا الكتاب الذي يتناول أيضا فكرة الحداثة المنقوصة وانعكاساتها على المشهد الثقافي في نخبته. ويعرض للحالة الثقافية في البلاد بالقول إن مصر بها العديد من المثقفين ولكنهم عاجزون عن التقدم بالمجتمع نحو الحداثة، ومصر بها العديد من المؤسسات والكيانات الثقافية مثلها مثل أي دولة متقدمة في العالم. ويسأل "لماذا لم تتحول مصر إلى دولة حديثة فعلا؟"
ترى الكاتبة أن العبور إلى الحداثة هو أساس الصراع الدائر في مصر الآن. "صراع ثقافي شرس بين القديم والجديد أي بين التراث والحداثة بلغة المثقفين."
يقول الكتاب إن الثقافتين نشأتا عبر التاريخ بسبب الاستعمار أو البعثات الخارجية والمدارس الأجنبية والإرساليات. والثقافتان هما: ثقافة الحكام والنخبة المنبهرة بالثقافة السياسية الأوروبية والغربية و ثقافة الأغلبية وهي الثقافة التقليدية وقيمها التي تقف أحيانا نقيضا للثقافة الأوروبية.
تقول الكاتبة هبة شريف وهي أستاذ سابق في الأدب الألماني بجامعة القاهرة إنه عبر التاريخ سارت عمليات التحديث "بطريقة غير منظمة إلى حد كبير واعتمدت على أسلوب أقرب إلى التجريب العشوائي.. و كان اختيار قيم الحداثة وفرضها انتقائيا إلى حد كبير ووفقا للأهواء السياسية للحكام."
ففرض طرق الإدارة الحديثة في عهد محمد علي أو الاشتراكية في عهد عبد الناصر "لم يصاحبه استعارة قيم الحداثة الأخرى مثل الحرية والديمقراطية والمساواة أمام القانون.. لأن هذه القيم كانت ستهدد طبعا النظام السياسي من أساسه."
ولكن بتغير هوى الحكام السياسي والأيديولوجي تغير الواقع تغيرا سريعا فشهدت مصر عدة مراحل من التطور المجتمعي. ونتيجة للتطلع إلى تحقيق المجتمع الحديث واللحاق بركب المدنية ظهر مفكرون مثل أحمد لطفي السيد أو فرح أنطون أو قاسم أمين ومحمد عبده حاولوا من خلال كتاباتهم التعريف بأفكار الحداثة التي يبغون تحقيقها. "ومع ذلك ظلت تلك الأفكار مقتصرة على النخبة وعلى العاصمة."
ومع ظهور نظام عبد الناصر أصبح التعليم مجانيا وأتيحت بذلك فرص كبيرة لطبقات محرومة للارتقاء مجتمعيا. ولكن "رغم ذلك لم يتحقق حلم مصر الحديثة.. فأصبحت الدولة تتحكم في مصائر البشر.. وأممت مثلا كل الصحف ومعظم دور النشر.. وانحسر الخطاب الذي كان من قبل متنوعا ما بين إسلامي وليبرالي واشتراكي وشيوعي ليصبح خطابا رسميا واحدا اختزل الحرية والتقدم في التحرر من الاستعمار."
"ومع تغول الدولة الشمولية صاحبة الصوت الواحد والرأي الواحد فقد رضي المفكرون المصريون بتنحية أفكار التجديد التي كانت تنادي بالديمقراطية والحرية لصالح هذا الخطاب الأوحد." وصار المثقفون المصريون جزءا من دائرة المستفيدين من النظام الحاكم بسبب تشابك مصالحهم مع مصالح الدولة.
وترى الكاتبة أن عقد التسعينات شهد اتجاها إلى الخصخصة واقتصاد السوق.. فتغير المجتمع المصري بصورة خاصة تبدلت فيها الرؤى والمواقع أكثر من مرة وبسرعة بشكل لم يتح للمجتمع أن يستوعب نتائج كل تجربة بشكل عميق.
وتخلص إلى أن شكل الحياة الحديث لم يقض تماما على الشكل القديم.. فنشأت "حداثة هجينة أو منقوصة". وتسوق الكاتبة مثالا هو فيلم قنديل أم هاشم (المأخوذ عن رواية يحيى حقي) حيث يخلص الطبيب الذي تلقى تعليمه في الخارج إلى أنه لا بد أن يستوعب ما هو موجود إلى جانب ما هو علمي. فالحداثة في مصر "حداثة منقوصة" لم تتحقق لأنها لم تدخل في نسيج المجتمع المصري بل فرضت عليه فرضا من قبل النخبة الحاكمة.
وفي وقتنا هذا فهم القطاع الإعلامي الخاص أن مزاج المصريين الثقافي شديد التنوع فلم يقتصر على تقديم منتج يعكس خطابا واحدا موجها إلى المثقفين الذين يصبون جام غضبهم على هذا القطاع "لأنه لا يرتقي لمستواهم".
وفهم القطاع الإعلامي الخاص أيضا أن الأصل هو إتاحة جميع المنتجات وليس منعها وأن الأفضل إتاحة جميع المنتجات الثقافية المختلفة لأن الجمهور ليس فصيلا واحدا إسلاميا أو تنويريا ولا تيارا واحدا ولا نخبويا فقط ولا شعبيا فقط. الجمهور المتلقي للمنتجات الثقافية المصرية هو خليط من هذا كله.
والدافع في هذا أن المحطات الخاصة تعتمد في دخلها إلى حد كبير على الإعلانات المقترنة بنسبة المشاهدة العالية. وبالتالي كان لزاما عليها أن تخاطب شرائح متعددة من المجتمع المصري... لأن هذه القنوات تبنت مفاهيم السوق الحداثية المبنية على استراتيجيات جذب المشاهد فقد اختلفت البرامج الدينية التي تقدمها اختلافا جوهريا في الشكل والمضمون.
وتشير الكاتبة إلى أن الإعلام الخاص في مصر يملكه رجال أعمال لهم مصالحهم وحساباتهم مع السلطة الحاكمة. لكن هذا القطاع الإعلامي يعيش على الإعلانات وعلى نسبة المشاهدة. فإذا لاحظ تراجعا في نسبة المشاهدة يبدأ يغير من سياساته باستثناء بعض القنوات التي أنشئت لهدف معين.
فالمشاهد في النهاية هو الذي يضغط على هذه القنوات لتغيير خطابها. وذلك بخطوة بسيطة هي أن ينصرف عن مشاهدة هذه القنوات.
تنتقل الكاتبة من مرحلة إلى أخرى لتبين أن محاولات التحديث الفوقية لم تأت بثمار نتيجة لتفريغها من مضمونها الذي يعتمد بالأساس على الحرية والديمقراطية والمساواة أمام القانون. وترصد أن النخبة المثقفة انحازت للسلطة تارة ولاذت بالتعالي عن أذواق الناس تارة أخرى ورسمت حدودا بين ما هو راق وهابط تارة ثالثة متسلحة بعلم وثقافة ومعرفة باللغات وغير ذلك.
وتفرد الكاتبة جزءا من كتابها لرصد مشهد انتفاضة يناير كانون الثاني 2011 من الزاوية الثقافية. وتتساءل: هل يختفي الخطاب المتنوع الذي ظهر بعد الثورة معبرا عن كل الأفكار التي تدور في المجتمع المصري بتياراتها المختلفة ليتم فرض خطاب رسمي واحد في استدعاء صريح لنفس سيناريو الخمسينات الذي أضر كثيرا بمسيرة الحداثة في مصر؟ وعلى الرغم من أن الكتاب صغير في حجمه ( 109 صفحات) وهو من القطع الصغير إلا أن الكاتبة تناقش التطور التاريخي لتجليات محاولات التحديث وترسم صورا دقيقة مصحوبة بأمثلة واقعية لما آل إليه المشهد بعد كل ما مر على مصر. وترصد الكاتبة أن المشهد الثقافي المصري يملك شكل المشهد الثقافي الحديث ولكن لا يملك مضمونه. فمضمون المشهد الثقافي الحديث هو حرية التعبير ودعم قوي للمبدعين وبنية تحتية جيدة وكوادر ثقافية مؤهلة وطرق إدارة حديثة ومساواة في توفير الفرص وإتاحة المنتجات الثقافية للجمهور بشكل عادل وشفافية في اختيار المبدعين والرقابة والتقييم.
وتؤكد الكاتبة في كتابها الصادر عن دار سلامة للنشر والتوزيع أن إتاحة الفنون بجميع أنواعها هو أساس حرية الاختيار فكل جماعة أو مجموعة من البشر تختار من المعروض ما يلائم ذائقتها ويلائم احتياجاتها. فالجمهور ليس مجموعة واحدة وليس كتلة واحدة يمكن تشكيلها طبقا لذوق النخبة.
وتختم الكاتبة كتابها الشيق بالتساؤل: هل يعد هذا مؤشرا على أن المجتمع المصري لا يناسبه شكل الحداثة كما هي موجودة في مجتمعاتها؟ أم أن الحداثة هي شكل من أشكال التطور الإنساني العام يمكن تحققها في مجتمعات مختلفة شرط تحقق شروطها كلها وشرط أن تكون الحداثة هي النتاج الطبيعي لتطور هذا المجتمع وحركته؟
الكتاب شيق للغاية وصعب اختزاله في عرض صغير وهو في الوقت نفسه ممتع ومبسط إلى أقل درجة ولا يصعب على القارئ العادي فهم مضمونه وتدبره.
تعليقات الفيسبوك