ترتفع مئات من مداخن المصانع المكسوة بالسخام في سماء مدينة الصف الصناعية جنوبي القاهرة لكن القليل منها بات يبث دخانه الأسود.
فبعد عامين على الثورة التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك تعيش الصناعة المصرية أوضاعا صعبة بعدما أدى غياب الاستقرار السياسي إلى فرار المستثمرين الأجانب وأضر بالثقة المحلية وشرعت الحكومة في إجراءات خفض دعم الطاقة الذي يستحوذ على خمس الموازنة العامة سنويا.
وقال رضا سالم رئيس اتحاد صناعة الطوب في مصر إن كل المداخن (بالمدينة) كانت تعمل قبل الثورة لكن الصورة تبدو كئيبة الآن.
وأضاف "بدأنا نتأثر بعد الثورة مباشرة لكن ساءت الأمور أكثر بعد رفع أسعار الوقود."
والمصانع المعطلة بمدينة الصف حيث تتركز معظم شركات تصنيع الطوب في مصر مؤشر على ما سيحدث لاحقا إذا واصلت الحكومة خططها لخفض الدعم للصناعات التي اعتادت على الحصول على الطاقة بأسعار زهيدة تقل كثيرا عن السعر الحقيقي.
وكانت شركات تصنيع الأسمنت والطوب من أبرز الصناعات التي تأثرت بالإصلاحات هذا العام والتي تأتي في إطار برنامج حكومي تدريجي لالغاء دعم الطاقة للمصانع خلال أربع سنوات.
وزادت أسعار الغاز الممنوح لمصانع الطوب والأسمنت بما لا يقل عن 75 في المئة بعدما خفضت الحكومة الدعم في فبراير وارتفع سعر زيت الوقود (المازوت) 50 في المئة حسب مصادر بالصناعة.
ومن أجل البقاء في السوق يلجأ وليد شكري الذي يدير مصنع الطوب المملوك لأبيه في مدينة الصف إلى بيع انتاجه بأقل من سعر التكلفة. ويقول إنه لن يستطيع مواصلة هذا لفترة أطول وإن الخسائر المتفاقمة قد تجبره على إغلاق المصنع وتسريح 300 عامل.
وخفض المصنع إنتاجه الشهري إلى النصف إلى 1.5 مليون قالب طوب في أشهر ما بعد الثورة عام 2011 مع تراجع الاقتصاد ثم خفضه مجددا إلى مليون قالب في مارس بعد خفض دعم الوقود.
وقال شكري "حاولنا رفع الأسعار بعد رفع تكلفة الوقود لكن السوق لم يقبل بهذا... نحن أصحاب المصنع نتحمل الخسائر أملا في تغير الأمور غدا. كثير من المصانع أغلقت أبوابها."
وكان مقررا خفض دعم الغاز والوقود في فبراير بنسبة أكبر لكن احتجاجات عمالية حالت دون ذلك.
ويؤكد هذا القرار على معضلة تواجه حكومة الرئيس محمد مرسي في سعيها لإصلاح الموازنة العامة. فالحكومة تحتاج إلى خفض الإنفاق لاحتواء عجز موازنة متفاقم بينما تخشى تأجيج مزيد من الاضطرابات الاجتماعية إن تشددت في إجراءات التقشف.
وقالت الحكومة إن دعم الطاقة يكلفها أكثر من 120 مليار جنيه (17.23 مليار دولار) في السنة المالية التي تنتهي في يونيو. وهذا يسهم في رفع عجز الموازنة إلى نحو 11.5 في المئة من الناتج الإجمالي مقابل 8.2 في المئة في السنة المالية 2011-2012.
وتأمل الحكومة أن تقلص العجز إلى 9.5 في المئة من الناتج الإجمالي في سنة 2013-2014 بخفض الدعم بما في ذلك خطة لترشيد الوقود المدعم للمستهلك عبر نظام بطاقات ذكية. لكنها أجلت بعض الإجراءات مرارا.
يقول أوليفر كولمان المحلل المتخصص في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بشركة مابل كروفت "الحكومة في مأزق حقيقي... ليس هناك إستراتيجية بديلة لتعزيز الاقتصاد في المدى الطويل لا تشمل خفض الإنفاق الحكومي. لكن أي إصلاحات ستضر بالاستقرار وتؤذي الاقتصاد."
ويرى محللون أن القاهرة تحتاج إلى السير بوتيرة أسرع للحصول على قرض 4.8 مليار دولار من صندوق النقد تسعى إليه منذ 2011 لدعم اقتصادها.
ويقول كولمان إن قيمة قرض الصندوق وحدها لن تنشط الاقتصاد المصري لكنها تتيح مستويات من المساعدات الدولية وتعين على استعادة قدر من ثقة المستثمرين التي تحتاجها بشدة.
وخفضت شركات دولية إمدادات المنتجات النفطية التي تمنحها لمصر خشية حدوث أزمة في الموازنة تؤدي إلى عدم حصولها على مستحقاتها.
وحققت محادثات قرض صندوق النقد- التي تشمل دون شك مزيدا من إجراءات إصلاح الدعم- تقدما بطيئا. ويرى محللون أن الحزب الحاكم وهو الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين لا يريد المخاطرة بإجراءات غير شعبية قد تمس الفقراء وأصحاب الدخول المتوسطة قبل الانتخابات البرلمانية المتوقعة في أكتوبر المقبل.
وقال كولمان إن قرض الصندوق سيمهد الطريق أمام تحسن احتياطي العملات الأجنبية مما يخفف القيود على رأس المال والتي تضر بالصناعات المصرية حاليا.
وبسبب انخفاض مستوى احتياطي العملات الأجنبية بسبب تراجع إيرادات السياحة والاستثمار الأجنبي منذ الثورة لجأ البنك المركزي لفرض قيود على حركة العملات الأجنبية تجعل من الصعوبة بمكان للشركات استيراد المواد الخام لإنتاج السلع.
وتتوقع مصر نموا اقتصاديا نسبته 2.5 في المئة هذه السنة المالية وتستهدف 4.1 في المئة لسنة 2013-2014. لكن محللين يرون ضرورة تحقيق نمو أسرع من ذلك لخلق فرص عمل.
وبلغ معدل البطالة أحد أسباب الثورة التي أطاحت بمبارك 13 في المئة حسب الأرقام الرسمية لكنه فعليا أعلى بكثير على الأرجح.
وحصلت مصر على قروض من قطر وليبيا وتركيا. لكن هذه القروض توفر دعما مؤقتا فقط للاقتصاد حسب محللين. ولا تشترط هذه القروض إصلاحات هيكلية على خلاف قرض صندوق النقد الذي قد يطلب ايضا رفع الضرائب.
وقال ويليام جاكسون الاقتصادي المتخصص في الأسواق الناشئة بشركة كابيتال ايكونوميكس إن الشروط المرتبطة بقرض صندوق النقد ستجعل عملية صناعة السياسات أكثر استقرارا ويمكن التنبؤ بها بصورة أفضل وهذا يشجع الشركات والمستهلكين على الإنفاق.
وقالت غادة علاء المحللة بشركة بلتون المالية إنه في مدينة الصف تمكنت شركات تصنيع الأسمنت التي تبيع لأسواق أجنبية من تمرير بعض زيادات التكلفة إلى المستهلك ورفعت أسعارها بما بين 20 و30 في المئة هذا العام. أما شركات الطوب التي تعتمد على السوق المحلية فلم تفعل.
وقال عبد العزيز عزوز رئيس رابطة تمثل صناع مواد البناء في المنطقة "لقد رفعوا (الأسعار) بما بين 50 و80 في المئة ولم يستطيعوا الحفاظ على هذا المستوى. انخفضت الأسعار مرة أخرى لأن العرض أكبر من الطلب."
وحتى شركات الأسمنت وغيرها من القطاعات مثل حديد التسليح التي تأثرت بخفض دعم الطاقة السنة الماضية ستجد صعوبة في تمرير التكاليف اذا ما خفضت الحكومة الدعم مرة أخرى.
وقالت غادة علاء "أسعار الأسمنت ارتفعت 50 في المئة وشركات الحديد لديها هامش ربح منخفض بالفعل لذا لا يمكنهم تحمل زيادات جديدة في أسعار الوقود."
تعليقات الفيسبوك